فصل: فَصْلٌ: (التَّمَكُّنُ وَالطُّمَأْنِينَةُ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ الْغُرْبَةِ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ‏:‏ بَابُ الْغُرْبَةِ وَالْغُرَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَقِيقَتُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى رُسُوخِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ‏:‏ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو- مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ-، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يَزِيدُونَ إِذَا نَقَصَ النَّاسُ‏.‏

فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَحْفُوظًا- لَمْ يَنْقَلِبْ عَلَى الرَّاوِي لَفْظُهُ وَهُوَ‏:‏ الَّذِينَ يَنْقُصُونَ إِذَا زَادَ النَّاسُ- فَمَعْنَاهُ‏:‏ الَّذِينَ يَزِيدُونَ خَيْرًا وَإِيمَانًا وَتُقًى إِذَا نَقَصَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ‏:‏ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ- طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ‏:‏ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ‏.‏

وَقَالَ أَحْمَدُ‏:‏ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ، قِيلَ‏:‏ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يَجْتَمِعُونَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ‏:‏ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ‏.‏

وَقَالَ نَافِعٌ، عَنْ مَالِكٍ‏:‏ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ جَالِسًا إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏؟‏ هَلَكَ أَخُوكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا، وَلَكِنَّ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ مَا هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَخْفِياءَ الْأَحْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ مُظْلِمَةٍ‏.‏

فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْغُرَبَاءُ الْمَمْدُوحُونَ الْمَغْبُوطُونَ، وَلِقِلَّتِهِمْ فِي النَّاسِ جِدًّا؛ سُمُّوا غُرَبَاءَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي النَّاسِ غُرَبَاءُ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ غُرَبَاءُ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُؤْمِنِينَ غُرَبَاءُ‏.‏

وَأَهْلُ السُّنَّةِ- الَّذِينَ يُمَيِّزُونَهَا مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ- فَهُمْ غُرَبَاءُ، وَالدَّاعُونَ إِلَيْهَا الصَّابِرُونَ عَلَى أَذَى الْمُخَالِفِينَ هُمْ أَشَدُّ هَؤُلَاءِ غُرْبَةً، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَلَا غُرْبَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا غُرْبَتُهُمْ بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، فَأُولَئِكَ هُمُ الْغُرَبَاءُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ، وَغُرْبَتُهُمْ هِيَ الْغُرْبَةُ الْمُوحِشَةُ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمَعْرُوفِينَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ، كَمَا قِيلَ‏:‏

فَلَيْسَ غَرِيبًا مَنْ تَنَاءَتْ دِيَارُهُ *** وَلَكِنَّ مَنْ تَنْأَيْنَ عَنْهُ غَرِيــبُ

وَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَارِبًا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ انْتَهَى إِلَى مَدْيَنَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ، وَهُوَ وَحِيدٌ غَرِيبٌ خَائِفٌ جَائِعٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ وَحِيدٌ مَرِيضٌ غَرِيبٌ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ يَا مُوسَى الْوَحِيدُ‏:‏ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلِي أَنِيسٌ، وَالْمَرِيضُ‏:‏ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلِي طَبِيبٌ، وَالْغَرِيبُ‏:‏ مَنْ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ‏.‏

‏[‏أَنْوَاعُ الْغُرْبَةِ‏]‏

‏[‏الْأَوَّلُ‏:‏ غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ‏]‏

فَالْغُرْبَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ‏:‏ غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ، وَهِيَ الْغُرْبَةُ الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهَا، وَأَخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ‏:‏ أَنَّهُ بَدَأَ غَرِيبًا وَأَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَصِيرُونَ غُرَبَاءَ‏.‏

وَهَذِهِ الْغُرْبَةُ قَدْ تَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَبَيْنَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْغُرْبَةِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْوُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْتَسِبُوا إِلَى غَيْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْعُوا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَارَقُوا النَّاسَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، فَإِذَا انْطَلَقَ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ آلِهَتِهِمْ بَقُوا فِي مَكَانِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ‏:‏ أَلَا تَنْطَلِقُونَ حَيْثُ انْطَلَقَ النَّاسُ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ فَارَقْنَا النَّاسَ وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهِمْ مِنَّا الْيَوْمَ، وَإِنَّا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُهُ‏.‏

فَهَذِهِ الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، بَلْ وَآنَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اسْتَوْحَشَ النَّاسُ، وَأَشَدُّ مَا تَكُونُ وَحْشَتُهُ إِذَا اسْتَأْنَسُوا، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنْ عَادَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفَوْهُ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏- عَنِ اللَّهِ تَعَالَى- إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي‏:‏ لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِّ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاتِهِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، ثُمَّ حَلَّتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ‏.‏

وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ‏:‏ مَنْ ذَكَرَهُمْ أَنَسٌ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ كُلُّ ضَعِيفٍ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَا يُنَافِسُ فِي عَزْلِهَا، لِلنَّاسِ حَالٌ وَلَهُ حَالٌ، النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي تَعَبٍ‏.‏

وَمِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ- الَّذِينَ غَبَطَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ، إِذَا رَغِبَ عَنْهَا النَّاسُ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَتَرْكُ الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا شَيْخَ وَلَا طَرِيقَةَ وَلَا مَذْهَبَ وَلَا طَائِفَةَ، بَلْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَإِلَى رَسُولِهِ بِالِاتِّبَاعِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَابِضُونَ عَلَى الْجَمْرِ حَقًّا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ- بَلْ كُلُّهُمْ- لَائِمٌ لَهُمْ‏.‏

فَلِغُرْبَتِهِمْ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ‏:‏ يَعُدُّونَهُمْ أَهْلَ شُذُوذٍ وَبِدْعَةٍ، وَمُفَارَقَةٍ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هُمُ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُمْ بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَنِيرَانٍ، وَعُبَّادِ صُوَرٍ وَصُلْبَانٍ، وَيَهُودٍ وَصَابِئَةٍ وَفَلَاسِفَةٍ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ غَرِيبًا، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ غَرِيبًا فِي حَيِّهِ وَقَبِيلَتِهِ وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ‏.‏

فَكَانَ الْمُسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ نُزَّاعًا مِنَ الْقَبَائِلِ، بَلْ آحَادًا مِنْهُمْ تَغَرَّبُوا عَنْ قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانُوا هُمُ الْغُرَبَاءُ حَقًّا، حَتَّى ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، فَزَالَتْ تِلْكَ الْغُرْبَةُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الِاغْتِرَابِ وَالتَّرَحُّلِ، حَتَّى عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، بَلِ الْإِسْلَامُ الْحَقُّ- الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ- هُوَ الْيَوْمَ أَشَدُّ غُرْبَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ وَرُسُومُهُ الظَّاهِرَةُ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَهْلُهُ غُرَبَاءُ أَشَدُّ الْغُرْبَةِ بَيْنَ النَّاسِ‏.‏

وَكَيْفَ لَا تَكُونُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا غَرِيبَةً بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، ذَاتَ أَتْبَاعٍ وَرِئَاسَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَوِلَايَاتٍ، وَلَا يَقُومُ لَهَا سُوقٌ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ فَإِنَّ نَفْسَ مَا جَاءَ بِهِ يُضَادُّ أَهْوَاءَهُمْ وَلَذَّاتِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَضِيلَتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ غَايَاتُ مَقَاصِدِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ‏؟‏

فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ غَرِيبًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَأَطَاعُوا شُحَّهُمْ، وَأُعْجِبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ‏؟‏ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا يَدَ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا صَبْرُ الصَّابِرِ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ‏.‏

وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْمُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي هَذَا الْوَقْتِ- إِذَا تَمَسَّكَ بِدِينِهِ-‏:‏ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ- قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ فَقَالَ‏:‏ بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكِ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ؛ الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ‏.‏ وَهَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَيْنَ ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ‏.‏

فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ بَصِيرَةً فِي دِينِهِ، وَفِقْهًا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَفَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَأَرَاهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الصِّرَاطَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى قَدْحِ الْجُهَّالِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِيهِ، وَطَعْنِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِزْرَائِهِمْ بِهِ وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْهُ، كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَفْعَلُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِ وَإِمَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا إِنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدَحَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ‏:‏ فَهُنَالِكَ تَقُومُ قِيَامَتُهُمْ وَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ وَيَجْلِبُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلِ كَبِيرِهِمْ وَرِجْلِهِ‏.‏

فَهُوَ غَرِيبٌ فِي دِينِهِ لِفَسَادِ أَدْيَانِهِمْ، غَرِيبٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِالسُّنَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْبِدَعِ، غَرِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ، غَرِيبٌ فِي صِلَاتِهِ لِسُوءِ صِلَاتِهِمْ، غَرِيبٌ فِي طَرِيقِهِ لِضَلَالِ وَفَسَادِ طُرُقِهِمْ، غَرِيبٌ فِي نِسْبَتِهِ لِمُخَالَفَةِ نَسَبِهِمْ، غَرِيبٌ فِي مُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعَاشِرُهُمْ عَلَى مَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ‏:‏ فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ لَا يَجِدُ مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعِدًا وَلَا مُعِينًا فَهُوَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، صَاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أَهْلِ بِدَعٍ، دَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ دُعَاةٍ إِلَى الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ بَيْنَ قَوْمٍ الْمَعْرُوفُ لَدَيْهِمْ مُنْكَرٌ وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الثَّانِي غُرْبَةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ‏]‏

النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْغُرْبَةِ غُرْبَةٌ مَذْمُومَةٌ وَهِيَ غُرْبَةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَأَهْلِ الْفُجُورِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ، فَهِيَ غُرْبَةٌ بَيْنَ حِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهَا فَهُمْ غُرَبَاءُ عَلَى كَثْرَةِ أَصْحَابِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ، أَهْلُ وَحْشَةٍ عَلَى كَثْرَةِ مُؤْنِسِهِمْ، يُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيَخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الثَّالِثُ غُرْبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لَا تُحْمَدُ وَلَا تُذَمُّ‏]‏

النَّوْعُ الثَّالِثُ‏:‏ غُرْبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لَا تُحْمَدُ وَلَا تُذَمُّ

وَهِيَ الْغُرْبَةُ عَنِ الْوَطَنِ الْأَوَّلِ جَنَّةِ الْخُلْدِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ غُرَبَاءُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، وَلَا هِيَ الدَّارُ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ‏.‏ وَهَكَذَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُطَالِعَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَيَعْرِفَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى‏:‏

وَحَيَّ عَلَى جَنَّــاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَـا *** مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيــهَا الْمُخَـيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَــلْ تَرَى *** نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَــا وَنُسَــلَّمُ

وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِــي *** لَهَا أَضْحَتِ الْأَعَـدَاءُ فِينَا تَحَـكَّمُ

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَـأَى *** وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَــانُهُ لَيْسَ يَنْعَمُ

فَمِنْ أَجْلِ ذَا لَا يَنْعَمُ الْعَبْدُ سَاعَةً *** مِنَ الْعُمْــرِ إِلَّا بَعْدَ مَا يَتَأَلَّـمُ

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الدَّارِ غَرِيبًا، وَهُوَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، لَا يَحِلُّ عَنْ رَاحِلَتِهِ إِلَّا بَيْنَ أَهْلِ الْقُبُورِ‏؟‏ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِي صُورَةِ قَاعِدٍ، وَقَدْ قِيلَ‏:‏

وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِـلُ *** يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَـوْتِ قَاصِـدُ

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا *** مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِــدُ

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الِاغْتِرَابِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ الْغُرْبَةُ عَنِ الْأَوْطَانِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

الِاغْتِرَابُ‏:‏ أَمْرٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الِانْفِرَادِ عَنِ الْأَكْفَاءِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ كُلَّ مَنِ انْفَرَدَ بِوَصْفٍ شَرِيفٍ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ غَرِيبٌ بَيْنَهُمْ؛ لِعَدَمِ مُشَارِكِهِ أَوْ لِقِلَّتِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ الْغُرْبَةُ عَنِ الْأَوْطَانِ، فِي الدُّنْيَا وَهَذَا الْغَرِيبُ مَوْتُهُ شَهَادَةٌ، وَيُقَاسُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ مَدْفَنِهِ إِلَى وَطَنِهِ، وَيُجْمَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

لَمَّا كَانَتِ الْغُرْبَةُ هِيَ انْفِرَادٌ، وَالِانْفِرَادُ إِمَّا بِالْجِسْمِ وَإِمَّا بِالْقَصْدِ وَالْحَالِ وَإِمَّا بِهِمَا- كَانَ الْغَرِيبُ غَرِيبَ جِسْمٍ، أَوْ غَرِيبَ قَلْبٍ وَإِرَادَةٍ وَحَالٍ، أَوْ غَرِيبًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهَذَا الْغَرِيبُ مَوْتُهُ شَهَادَةٌ ‏"‏ يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَيُقَاسُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ مَدْفَنِهِ إِلَى وَطَنِهِ ‏"‏ فَيُشِيرُ بِهِ إِلَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ‏:‏ حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ تُوفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ- مِمَّنْ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ- فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ‏:‏ لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيٍّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ‏:‏ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ‏:‏ يَا لَهُ لَوْ مَاتَ غَرِيبًا، فَقِيلَ‏:‏ وَمَا لِلْغَرِيبِ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَا مِنْ غَرِيبٍ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، إِلَّا قِيسَ لَهُ مِنْ تُرْبَتِهِ إِلَى مَوْلِدِهِ فِي الْجَنَّةِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَيُجْمَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ‏.‏ قِيلَ‏:‏ وَمَا الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ يَجْتَمِعُونَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غُرْبَةُ الْحَالِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ غُرْبَةُ الْحَالِ، وَهَذَا مِنْ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يَنَالُونَ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ الْعَظِيمَ الَّذِينَ طُوبَى لَهُمْ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ فِي زَمَانٍ فَاسِدٍ بَيْنَ قَوْمٍ فَاسِدِينَ، أَوْ عَالِمٌ بَيْنَ قَوْمٍ جَاهِلِينَ، أَوْ صِدِّيقٌ بَيْنَ قَوْمٍ مُنَافِقِينَ‏.‏

يُرِيدُ بِالْحَالِ هَاهُنَا‏:‏ الْوَصْفَ الَّذِي قَامَ بِهِ مِنَ الدِّينِ وَالْتَمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْحَالَ الِاصْطِلَاحِيَّ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ‏:‏ الْعَالِمُ بِالْحَقِّ، الْعَامِلُ بِهِ، الدَّاعِي إِلَيْهِ‏.‏

وَجَعَلَ الشَّيْخُ الْغُرَبَاءَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ‏:‏ صَاحِبَ صَلَاحٍ وَدِينٍ بَيْنَ قَوْمٍ فَاسِدِينَ، وَصَاحِبَ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ بَيْنَ قَوْمٍ جُهَّالٍ، وَصَاحِبَ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ بَيْنَ أَهْلِ كَذِبٍ وَنِفَاقٍ، فَإِنَّ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ وَأَحْوَالَهُمْ تُنَافِي صِفَاتِ مَنْ هُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ بَيْنَ أُولَئِكَ كَمَثَلِ الطَّيْرِ الْغَرِيبِ بَيْنَ الطُّيُورِ، وَالْكَلْبِ الْغَرِيبِ بَيْنَ الْكِلَابِ‏.‏

وَالصِّدِّيقُ هُوَ الَّذِي صَدَقَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَصَدَّقَ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، فَقَدِ انْجَذَبَتْ قُوَاهُ كُلُّهَا لِلِانْقِيَادِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، عَكْسُ الْمُنَافِقِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ وَقَوْلُهُ خِلَافُ عَمَلِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ غُرْبَةُ الْهِمَّةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ غُرْبَةُ الْهِمَّةِ، وَهِيَ غُرْبَةُ طَلَبِ الْحَقِّ لِلْمُرِيدِينَ، وَهِيَ غُرْبَةُ الْعَارِفِ؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ، وَمَصْحُوبَهُ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ، وَمَوْجُودَهُ لَا يَحْمِلُهُ عِلْمٌ أَوْ يُظْهِرُهُ وَجْدٌ، أَوْ يَقُومُ بِهِ رَسْمٌ، أَوْ تُطِيقُهُ إِشَارَةٌ، أَوْ يَشْمَلُهُ اسْمُ غَرِيبٍ، فَغُرْبَةُ الْعَارِفِ غُرْبَةُ الْغُرْبَةِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏

إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْغُرْبَةَ الْأُولَى غُرْبَةٌ بِالْأَبْدَانِ‏.‏ وَالثَّانِيَةَ‏:‏ غُرْبَةٌ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ‏.‏ وَهَذِهِ الثَّالِثَةَ‏:‏ غُرْبَةٌ بِالْهِمَمِ‏.‏ فَإِنَّ هِمَّةَ الْعَارِفِ حَائِمَةٌ حَوْلَ مَعْرُوفِهِ، فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَضْلًا عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ طَالِبَ الْآخِرَةِ غَرِيبٌ فِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ لِأَنَّ الْعَارِفَ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ ‏"‏ شَاهِدُ الْعَارِفِ‏:‏ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ عِنْدَهُ وَلَهُ بِصِحَّةِ مَا وَجَدَ وَأَنَّهُ كَمَا وَجَدَ، وَبِثُبُوتِ مَا عَرَفَ وَأَنَّهُ كَمَا عَرَفَ‏.‏

وَهَذَا الشَّاهِدُ‏:‏ أَمْرٌ يَجِدُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَهُوَ قُرْبُهُ مِنَ اللَّهِ، وَأُنْسُهُ بِهِ، وَشِدَّةُ شَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ وَفَرَحِهِ بِهِ، فَهَذَا شَاهِدُهُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ‏.‏

وَلَهُ شَاهِدٌ فِي حَالِهِ وَعَمَلِهِ، يُصَدِّقُ هَذَا الشَّاهِدَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ‏.‏

وَلَهُ شَاهِدٌ فِي قُلُوبِ الصَّادِقِينَ، يُصَدِّقُ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ لَا تَشْهَدُ بِالزُّورِ أَلْبَتَّةَ، فَإِذَا أُخْفِيَ عَلَيْكَ شَأْنُكُ وَحَالُكُ، فَاسْأَلْ عَنْكَ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ؛ فَإِنَّهَا تُخْبِرُكَ عَنْ حَالِكَ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَمَصْحُوبَهُ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ ‏"‏ مَصْحُوبُهُ فِي شَاهِدِهِ؛ هُوَ الَّذِي يَصْحَبُهُ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ، وَهُوَ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَطِقْ طَعْمَ هَذَا الشَّأْنِ، بَلْ هُوَ فِي وَادٍ وَأَهْلُهُ فِي وَادٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَمَوْجُودَهُ لَا يَحْمِلُهُ عِلْمٌ- إِلَى آخِرِهِ‏.‏

يُرِيدُ بِمَوْجُودِهِ‏:‏ مَا يَجِدُهُ فِي شُهُودِهِ وِجْدَانًا ذَاتِيًّا حَقِيقِيًّا فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ يَشْمَلُهَا كُلُّهَا حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ‏.‏

فَأَمَّا مَا يَحْمِلُهُ الْعِلْمُ‏:‏ فَهُوَ أَحْكَامُ الْعِلْمِ الَّتِي مَتَى انْسَلَخَ مِنْهَا انْسَلَخَ مِنَ الْإِيمَانِ‏.‏

وَمَوْجُودُهُ فِي هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْحَالِ، هُوَ إِصَابَتُهُ وَجْهَ الصَّوَابِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَرْعِهِ وَأَمْرِهِ، وَهَذِهِ الْإِصَابَةُ غَرِيبَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ هِيَ مَتْرُوكَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ الْحَلَالُ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ مَنْ قَلَّدُوهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا أَفْتَى بِهِ، يُقَدَّمُ عَلَى النُّصُوصِ، وَتُتْرَكُ لَهُ أَقْوَالُ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ أَوْ يُظْهِرُهُ وَجْدٌ ‏"‏ الْوَجْدُ‏:‏ يُظْهِرُ أُمُورًا يُنْكِرُهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الْوَجْدُ، وَيَعْرِفُهَا مَنْ كَانَ لَهُ، وَهَذَا الْوَجْدُ إِنْ شَهِدَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْقَبُولِ وَزَكَّاهُ، فَهُوَ وَجْدٌ صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَهُوَ وَجْدٌ فَاسِدٌ وَفِيهِ انْحِرَافٌ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ مَا يُظْهِرُهُ وَجْدُ هَذَا الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ غَرِيبٌ عَلَى غَيْرِهِ، بِحَسَبِ هِمَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَطَلَبِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ أَوْ يَقُومُ بِهِ رَسْمٌ ‏"‏ الرَّسْمُ‏:‏ هُوَ الصُّورَةُ الْخَلْقِيَّةُ وَصِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا عِنْدَهُمْ، وَالَّذِي يَقُومُ بِهِ هَذَا الرَّسْمُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهُ مَنْ تَعَلَّقَ اسْمُ الْقَيُّومِ بِهِ، فَإِنَّ الْقَيُّومَ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي قِيَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ؛ أَيْ‏:‏ هُوَ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَلَا قِيَامَ لِغَيْرِهِ بِدُونِ إِقَامَتِهِ لَهُ، وَقِيَامُهُ هُوَ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ مَا يَقْوَى رَسْمُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَإِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَا لَا يَقْوَى رَسْمُ الْعَبْدِ عَلَى إِظْهَارِهِ وَلَا الْقِيَامِ بِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ كَلَامِهِ، وَسِيَاقُهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ‏:‏ أَوْ تُطِيقُهُ إِشَارَةٌ؛ أَيْ‏:‏ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِفْهَامِهِ وَإِظْهَارِهِ إِشَارَةٌ، فَتَنْهَضُ الْإِشَارَةُ بِكَشْفِهِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَوْ يَشْمَلُهُ رَسْمٌ، يَعْنِي‏:‏ أَوْ تَنَالُهُ عِبَارَةٌ‏.‏

فَذَكَرَ الشَّيْخُ خَمْسَ مَرَاتِبَ؛ الْأُولَى‏:‏ مَرْتَبَةُ حَمْلِ الْعِلْمِ لَهُ‏.‏ الثَّانِيَةُ‏:‏ مَرْتَبَةُ إِظْهَارِ الْوَجْدِ لَهُ‏.‏ الثَّالِثَةُ‏:‏ مَرْتَبَةُ قِيَامِ الرَّسْمِ بِهِ‏.‏ الرَّابِعَةُ‏:‏ مَرْتَبَةُ إِطَاقَةِ الْإِشَارَةِ لَهُ‏.‏ الْخَامِسَةُ‏:‏ مَرْتَبَةُ شُمُولِ الْعِبَارَةِ لَهُ‏.‏

وَمَقْصُودُهُ‏:‏ أَنَّ مَوْجُودَ الْعَارِفِ أَخْفَى وَأَدَقُّ مِنْ مَوْجُودِ غَيْرِهِ، فَهُوَ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَوْجُودٍ سِوَاهُ، وَأَخْبَرَ‏:‏ أَنَّ مَوْجُودَهُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ غَرِيبٌ، فَكَيْفَ بِمَوْجُودِهِ الَّذِي لَا يَحْمِلُهُ عِلْمٌ، وَلَا يُظْهِرُهُ وَجْدٌ، وَلَا يَقُومُ بِهِ رَسْمٌ، وَلَا تُطِيقُهُ إِشَارَةٌ، وَلَا تَشْمَلُهُ عِبَارَةٌ‏؟‏ فَهَذَا أَشَدُّ غُرْبَةً‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ فَغُرْبَةُ الْعَارِفِ‏:‏ غُرْبَةُ الْغُرْبَةِ لِلْمُرِيدِينَ ‏"‏ وَ ‏"‏ الْغُرْبَةُ ‏"‏ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ غَرِيبًا، مَعَ أَنَّ لَهُ نَسَبًا فِيهِمْ‏.‏

وَأَمَّا غُرْبَةُ الْمَعْرِفَةِ لِلْمُرِيدِينَ‏:‏ فَلَا يَبْقَى مَعَهَا نِسْبَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ إِلَّا بِوَجْهٍ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ فِي شَأْنٍ وَالنَّاسُ فِي شَأْنٍ آخَرَ، فَغُرْبَتُهُ غُرْبَةُ الْغُرْبَةِ‏.‏

وَأَيْضًا فَالصَّالِحُونَ غُرَبَاءُ فِي النَّاسِ، وَالزَّاهِدُونَ غُرَبَاءُ فِي الصَّالِحِينَ، وَالْعَارِفُونَ غُرَبَاءُ فِي الزَّاهِدِينَ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ لِأَنَّهُ غَرِيبُ الدُّنْيَا وَغَرِيبُ الْآخِرَةِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا لَا يَعْرِفُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَأَهْلَ الْآخِرَةِ- الْعُبَّادَ الزُّهَّادَ- لَا يَعْرِفُونَهُ؛ لِأَنَّ شَأْنَهُ وَرَاءَ شَأْنِهِمْ، هِمَّتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِبَادَةِ، وَهِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَعْبُودِ مَعَ قِيَامِهِ بِالْعِبَادَةِ، فَهُوَ يَرَى النَّاسَ وَالنَّاسُ لَا يَرَوْنَهُ، كَمَا قِيلَ‏:‏

تَسَتَّرْتُ مِنْ دَهْرِي بِظِلِّ جَنَاحِـهِ *** فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي وَلَيْسَ يَرَانِي

فَلَوْ تَسْأَلِ الْأَيَّامَ مَا اسْمِي لَمَا دَرَتْ *** وَأَيْنَ مَكَانِي مَا عَرَفْنَ مَكَانِـيَ

فَصْلٌ‏:‏ الْغَرَقُ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ‏:‏

‏(‏بَابُ الْغَرَقِ مَقَامُهُ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ السَّالِكِينَ‏)‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ هَذَا اسْمٌ يُشَارُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى مَنْ تَوَسَّطَ الْمَقَامَ، وَجَاوَزَ حَدَّ التَّفَرُّقِ‏.‏

وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَ مَا بَلَغَ- هُوَ وَوَلَدُهُ- فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَالْعَزْمِ عَلَى إِيقَاعِ الذَّبْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ‏:‏ أَلْقَاهُ الْوَالِدُ عَلَى جَبِينِهِ فِي الْحَالِ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ وَأَهْوَى إِلَى حَلْقِهِ، أَعْرَضَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، وَفَنِيَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَنْهُمَا، فَتَوَسَّطَ بَحْرَ جَمْعِ السِّرِّ وَالْقَلْبِ وَالْهَمِّ عَلَى اللَّهِ، وَجَاوَزَ حَدَّ التَّفْرِقَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ امْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا‏}‏ ‏"‏ اسْتَسْلَمَا وَانْقَادَا لِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مُنَازَعَةٌ لَا مِنَ الْوَالِدِ وَلَا مِنَ الْوَلَدِ، بَلِ اسْتِسْلَامٌ صِرْفٌ وَتَسْلِيمٌ مَحْضٌ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ ‏"‏ أَيْ‏:‏ صَرَعَهُ عَلَى جَبِينِهِ، وَهُوَ جَانِبُ الْجَبْهَةِ الَّذِي يَلِي الْأَرْضَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَتِلْكَ هِيَ هَيْئَةُ مَا يُرَادُ ذَبْحُهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ تَوَسَّطَ الْمَقَامَ ‏"‏ لَا يُرِيدُ بِهِ مَقَامًا مُعَيَّنًا، وَلِذَلِكَ أَبْهَمَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَ ‏"‏ الْمَقَامُ ‏"‏ عِنْدَهُمْ‏:‏ مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِ، وَلَهُ بِدَايَةٌ وَتَوَسُّطٌ وَنِهَايَةٌ، فَـ ‏"‏ الْغَرَقُ ‏"‏ الْمُشَارُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنْ يَصِيرَ فِي وَسَطِ الْمَقَامِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْغَرَقُ أَخَصُّ بِنِهَايَةِ الْمَقَامِ مِنْ تَوَسُّطِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ الشَّيْخُ تَوَسُّطًا فِيهِ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ لَمَّا كَانَتْ هِمَّةُ الطَّالِبِ- فِي هَذِهِ الْحَالِ- مَجْمُوعَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَمَّا سِوَاهُ، قَدْ فَارَقَ مَقَامَ التَّفْرِقَةِ، وَجَاوَزَ حَدَّهَا إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، فَابْتَدَأَ فِي الْمَقَامِ- وَأَوَّلُ كُلِّ مَقَامٍ يُشْبِهُ آخِرَ الَّذِي قَبْلَهُ- فَلَمَّا تَوَسَّطَ فِيهِ اسْتَغْرَقَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ وَإِرَادَتَهُ، كَمَا يَغْرَقُ مَنْ تَوَسَّطَ اللُّجَّةَ فِيهَا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ الْغَرَقِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى اسْتِغْرَاقُ الْعِلْمِ فِي عَيْنِ الْحَالِ‏]‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ اسْتِغْرَاقُ الْعِلْمِ فِي عَيْنِ الْحَالِ بِعَمَلِ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ بِمَا يَعْلَمُ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ ظَفِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَتَحَقَّقَ فِي الْإِشَارَةِ، فَاسْتَحَقَّ صِحَّةَ النِّسْبَةِ‏.‏

هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي بَدَأَ بِهَا هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِالشَّيْءِ وَلَا يَكُونُ مُتَّصِفًّا بِالتَّخَلُّقِ بِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، فَالْعِلْمُ شَيْءٌ وَالْحَالُ شَيْءٌ آخَرٌ‏.‏ فَعِلْمُ الْعِشْقِ وَالصِّحَّةِ وَالشُّكْرِ وَالْعَافِيَةِ غَيْرُ حُصُولِهَا وَالِاتِّصَافِ بِهَا، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ صَارَ عِلْمُهُ بِهَا كَالْمَغْفُولِ عَنْهُ، وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ، بَلْ صَارَ الْحُكْمُ لِلْحَالِ‏.‏

فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْرِفُ الْخَوْفَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، وَلَكِنْ إِذَا اتَّصَفَ بِالْخَوْفِ وَبَاشَرَ الْخَوْفُ قَلْبَهُ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الْخَوْفِ وَالِانْزِعَاجِ، وَاسْتَغْرَقَ عِلْمُهُ فِي حَالِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ عِلْمَهُ لِغَلَبَةِ حَالِهِ عَلَيْهِ‏.‏

وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْعُلُومَ إِذَا أَثْمَرَتِ الْأَحْوَالَ؛ كَانَتْ عَنْهَا الِاسْتِقَامَةُ فِي الْأَعْمَالِ وَوُقُوعُهَا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، وَتَحَقُّقُ صَاحِبِهَا فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَجَدَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ تَكُنْ إِشَارَتُهُ عَنْ تَخْمِينٍ وَظَنٍّ وَحُسْبَانٍ‏.‏

وَاسْتَحَقَّ اسْمَ النِّسْبَةِ- فِي صِحَّةِ الْعُبُودِيَّةِ- إِلَى الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا‏}‏ الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ هَذَا انْتَقَلَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ إِلَى أَحْكَامِ الْعَمَلِ بِالْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ، فَهُوَ عَامِلٌ بِالْمَوَاجِيدِ الْحَالِيَّةِ الْمَصْحُوبَةِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ انْفِرَادَ الْعِلْمِ عَنِ الْحَالِ تَعْطِيلٌ وَبَطَالَةٌ، وَانْفِرَادُ الْحَالِ عَنِ الْعِلْمِ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ، وَالْأَكْمَلُ‏:‏ أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ شُهُودِ الْعِلْمِ بِالْحَالِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ الْحَالُ عَنْ شُهُودِ الْعِلْمِ مَعَ قِيَامِهِ بِأَحْكَامِهِ؛ لَمْ يَضُرَّهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ ظَفِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ ‏"‏ أَيْ‏:‏ هُوَ عَلَى مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ الْقَاصِدِ إِلَى اللَّهِ، الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَ ‏"‏ الظَّفَرُ ‏"‏ هُوَ حُصُولُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَطْلُوبِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَتَحَقَّقَ فِي الْإِشَارَةِ ‏"‏ أَيْ‏:‏ إِشَارَتُهُ إِشَارَةُ تَحْقِيقٍ، لَيْسَتْ كَإِشَارَةِ صَاحِبِ الْبَرْقِ الَّذِي يَلُوحُ ثُمَّ يَذْهَبُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ فَاسْتَحَقَّ صِحَّةَ النِّسْبَةِ ‏"‏ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَامَ، وَصَحَّ حَالُهُ بِعَمَلِهِ، وَأَثْمَرَ عِلْمُهُ حَالَهُ‏:‏ صَحَّتْ نِسْبَةُ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ إِلَّا نِسْبَةَ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِغْرَاقُ الْإِشَارَةِ فِي الْكَشْفِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ اسْتِغْرَاقُ الْإِشَارَةِ فِي الْكَشْفِ لِلسَّالِكِ وَالْمُرِيدِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا رَجُلٌ يَنْطِقُ عَنْ مَوْجُودِهِ، وَيَسِيرُ مَعَ مَشْهُودِهِ، وَلَا يُحِسُّ بِرُعُونَةِ رَسْمِهِ‏.‏

إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى غَايَتُهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَا تُحَقِّقُهُ وَإِنْ فَارَقَهُ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ قَدْ فَنِيَ عَنِ الْإِشَارَةِ، لِغَلَبَةِ تَوَالِي نُورِ الْكَشْفِ عَلَيْهِ، فَاسْتِغْرَاقُ الْإِشَارَةِ فِي الْكَشْفِ هُوَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهَا فِيهِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ- عِنْدَهُمْ- نِدَاءٌ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ، وَبَوْحٌ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتِ الْعِلَلُ عَنْ صَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَاسْتَغْرَقَتْ إِشَارَتُهُ فِي كَشْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِشَارَةٌ فِي الْكَشْفِ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ الْإِشَارَةُ لِاسْتِغْرَاقِ الْكَشْفِ لَهَا، إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ رُعُونَةِ رَسْمِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ وَلَا يُحِسُّ بِرُعُونَةِ رَسْمِهِ، وَرُعُونَةُ الرَّسْمِ‏:‏ هِيَ الْتِفَاتُهُ إِلَى إِنِّيَّتِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَهَذَا رَجُلٌ يَنْطِقُ عَنْ مَوْجُودِهِ‏.‏

أَيْ‏:‏ لَا يَسْتَعِيرُ مَا يَذْكُرُهُ مِنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ لِسَانُهُ نَاطِقًا بِهِ عَلَى حَالِ غَيْرِهِ وَمَوْجُودِهِ، فَهُوَ يَنْطِقُ عَنْ أَمْرٍ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ لَا وَصَّافٌ لَهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَيَسِيرُ مَعَ مَشْهُودِهِ ‏"‏ هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ‏:‏ يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ شُهُودٍ وَكَشْفٍ، لَا مَعَ حِجَابٍ وَغَفْلَةٍ، فَهُوَ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ بِاللَّهِ مَعَ اللَّهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَا يُحِسُّ بِرُعُونَةِ رَسْمِهِ ‏"‏ الرَّسْمُ- عِنْدَهُمْ- هُوَ ذَاتُ الْعَبْدِ الَّتِي تَفْنَى عِنْدَ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفَنَائِهَا عَدَمَهَا مِنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ، بَلْ عَدَمَهَا مِنَ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ الْعِلْمِيِّ، هَذَا مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ فَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ‏.‏

وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ‏:‏ اضْمِحْلَالُ الْوُجُودِ الْمُحْدَثِ الْحَاصِلِ بَيْنَ عَدَمَيْنِ، وَتَلَاشِيهِ فِي الْوُجُودِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ‏.‏

وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ يَجُولُ فِيهِ، وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ الْوُجُودَ الْمُحْدَثَ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّ الْوُجُودَ الْقَدِيمَ الدَّائِمَ وَحْدَهُ هُوَ الثَّابِتُ لَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ، لَا فِي ذِهْنٍ وَلَا فِي خَارِجٍ، وَإِنَّمَا هُوَ وُجُودٌ فَائِضٌ عَلَى الدَّوَامِ عَلَى مَاهِيَّاتٍ مَعْدُومَةٍ، فَتَكْتَسِي بِعَيْنِ وَجُودِهِ بِحَسْبِ اسْتِعْدَادَاتِهَا، وَالْمَقْصُودُ‏:‏ شَرْحُ كَلَامِ الشَّيْخِ‏.‏

وَالْمُرَادُ بِرُعُونَةِ الرَّسْمِ هَاهُنَا‏:‏ بَقِيَّةٌ تَبْقَى مِنْ صَاحِبِ الشُّهُودِ، لَا يُدْرِكُهَا لِضَعْفِهَا وَقِلَّتِهَا، وَاشْتِغَالِهِ بِنُورِ الْكَشْفِ عَنْ ظُلْمَتِهَا، فَهُوَ لَا يُحِسُّ بِهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ اسْتِغْرَاقُ الشَّوَاهِدِ فِي الْجَمْعِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ اسْتِغْرَاقُ الشَّوَاهِدِ فِي الْجَمْعِ فِي قَلْبِ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا رَجُلٌ شَمَلَتْهُ أَنْوَارُ الْأَوَّلِيَّةِ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ فِي مُطَالَعَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَتَخَلَّصَ مِنَ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ‏.‏

إِنَّمَا كَانَ هَذَا الِاسْتِغْرَاقُ عِنْدَهُ أَكْمَلَ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِغْرَاقٌ كَاشِفٌ فِي كَشْفٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِتَفْرِقَةٍ، وَهَذَا اسْتِغْرَاقٌ عَنْ شُهُودِ كَشْفِهِ فِي الْجَمْعِ، فَتَمَكَّنَ هَذَا فِي حَالِ جَمْعِ هِمَّتِهِ مَعَ الْحَقِّ حَتَّى غَابَ عَنْ إِدْرَاكِ شُهُودِهِ، وَذَكَرَ رُسُومَهُ، لَمَّا تَوَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَنْوَارِ الَّتِي خَصَّهُ الْحَقُّ بِهَا فِي الْأَزَلِ، وَهِيَ أَنْوَارُ كَشْفِ اسْمِهِ الْأَوَّلِ فَفَتَحَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ فِي مُطَالَعَةِ الِاخْتِصَاصَاتِ الْأَزَلِيَّةِ، فَتَخَلَّصَ بِذَلِكَ مِنَ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ الْمُنْقَسِمَةِ بَيْنَ تَغْيِيرِ مَقْسُومٍ، أَوْ تَفْوِيتِ مَضْمُونٍ، أَوْ تَعْجِيلِ مُؤَخَّرٍ، أَوْ تَأْخِيرِ سَابِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ يُرَادُ بِالْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ تَعَلُّقُهَا بِمَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمَا كَانَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَاسْتِغْرَاقُ شَوَاهِدِهِ فِي جَمْعِ الْحِكَمِ وَشُمُولِهِ‏.‏

وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقُ شَوَاهِدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لَهَا، فَإِنَّ الذَّاتَ جَامِعَةٌ لِأَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ الْعَبْدُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ غَابَتِ الشَّوَاهِدُ فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ‏.‏

وَأَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ‏:‏ أَنْ يَشْهَدَ كَثْرَةً فِي وَحْدَةٍ، وَوَحْدَةً فِي كَثْرَةٍ، بِمَعْنَى‏:‏ أَنْ يَشْهَدَ كَثْرَةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ، وَوَحْدَةَ الذَّاتِ مَعَ كَثْرَةِ أَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ فَفَتَحَ عَيْنَهُ فِي مُطَالَعَةِ الْأَزَلِيَّةِ ‏"‏ نَظَرَ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَاسْتَمَدَّ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَحْقِيقِهِ، فَشَاهَدَ سَبْقَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَوَّلِيَّتَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَتَخَلَّصَ مِنْ هِمَمِ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدْنَى، وَصَارَتْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَبِّهِ الْأَعْلَى تَسْرَحُ فِي رِيَاضِ الْأُنْسِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى مَقَامَاتِهَا تَحْتَ عَرْشِهِ سَاجِدَةً لَهُ، خَاضِعَةً لِعَظَمَتِهِ، مُتَذَلِّلَةً لِعِزَّتِهِ، لَا تَبْغِي عَنْهُ حَوْلًا وَلَا تَرُومُ بِهِ بَدَلًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْغَيْبَةِ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

‏(‏بَابُ الْغَيْبَةِ‏)‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ‏}‏‏.‏

وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ يَعْقُوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِحُبِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذِكْرِهِ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ أَخِيهِ، مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِمُصِيبَةِ فِرَاقِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ مَعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهِ غَيْبَةً عَنْهُ بِمَحَبَّةِ يُوسُفَ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏ لَكَانَ دَلِيلًا أَيْضًا، فَإِنَّ مُشَاهَدَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيَّبَ عَنِ النِّسْوَةِ السَّكَاكِينَ وَمَا يَقْطَعْنَ بِهِنَّ، حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَلَا يَشْعُرْنَ، وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ الْغَيْبَةِ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ الْغَيْبَةِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى غَيْبَةُ الْمُرِيدِ فِي تَخَلُّصِ الْقَصْدِ عَنْ أَيْدِي الْعَلَائِقِ‏]‏

قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ الْغَيْبَةُ لَهَا دَرَجَاتٌ ثَلَاثَةٌ- الَّتِي يُشَارُ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَابِ- عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى‏:‏ غَيْبَةُ الْمُرِيدِ فِي تَخَلُّصِ الْقَصْدِ عَنْ أَيْدِي الْعَلَائِقِ، وَدَرْكِ الْعَوَائِقِ لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ‏.‏

يُرِيدُ غَيْبَةَ الْمُرِيدِ عَنْ بَلَدِهِ وَوَطَنِهِ وَعَادَاتِهِ، فِي مَحَلِّ تَخْلِيصِ الْقَصْدِ وَتَصْحِيحِهِ لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ الْعَلَائِقَ، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَلْبِهِ وَقَالِبِهِ وَحِسِّهِ مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، وَيَسْبِقُ الْعَوَائِقَ حَتَّى لَا تَلْحَقَهُ وَلَا تُدْرِكَهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ ‏"‏ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ غَيْبَةُ الْمُرِيدِ ‏"‏ أَيْ‏:‏ هَذِهِ الْغَيْبَةُ لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ، فَإِنَّ الْعَوَائِقَ وَالْعَلَائِقَ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِهَا وَحُصُولِهَا لِمُضَادَّتِهَا لَهَا‏.‏

وَالْحَقَائِقُ جَمْعُ حَقِيقَةٍ، وَيُرَادُ بِهَا الْحَقُّ تَعَالَى وَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُهُ الْحَقُّ، وَرَسُولُهُ حَقٌّ، وَعُبُودِيَّتُهُ وَحْدَهُ حَقٌّ، وَعُبُودِيَّةُ مَا سِوَاهُ الْبَاطِلُ، فَكُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ الْمُرِيدَ إِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ قَصْدُهُ فِي مَطْلُوبِهِ عَمَّا يَعُوقُهُ مِنَ الشَّوَاغِلِ أَوْ مَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْمُعَوِّقَاتِ؛ لَمْ يَبْلُغْ مَقْصُودَهُ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ فَبَعْدَ جُهْدٍ شَدِيدٍ وَمَشَقَّةٍ، بِسَبَبِ تِلْكَ الشَّوَاغِلِ، وَلَمْ يَصِلِ الْقَوْمُ إِلَى مَطْلَبِهِمْ إِلَّا بِقَطْعِ الْعَلَائِقِ وَرَفْضِ الشَّوَاغِلِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غَيْبَةُ السَّالِكِ عَنْ رُسُومِ الْعِلْمِ وَعِلَلِ السَّعْيِ وَرُخَصِ الْفُتُورِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ غَيْبَةُ السَّالِكِ عَنْ رُسُومِ الْعِلْمِ، وَعِلَلِ السَّعْيِ، وَرُخَصِ الْفُتُورِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ إِجْمَالٌ، فَالْمُلْحِدُ يَفْهَمُ مِنْهُ‏:‏ أَنَّهُ يُفَارِقُ أَحْكَامَ الْعِلْمِ، وَيَقِفُ مَعَ أَحْكَامِ الْحَالِ، وَهَذَا زَنْدَقَةٌ وَإِلْحَادٌ‏.‏

وَالْمُوَحِّدُ يَفْهَمُ مِنْهُ‏:‏ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ إِلَى أَحْكَامِ الْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الْخَالِيَ عَنِ الْحَالِ ضَعْفٌ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحَالَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْعِلْمِ ضَلَالٌ عَنِ الطَّرِيقِ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِحَالٍ مُجَرَّدٍ عَنْ عِلْمٍ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَعِلَلُ السَّعْيِ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّ السَّالِكَ يَغِيبُ عَنْ عِلَلِ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ‏.‏

وَهَذِهِ الْعِلَلُ عِنْدَهُمْ‏:‏ هِيَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ يَصِلُ بِهَا إِلَى اللَّهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهَا، وَفَرَحُهُ بِهَا وَرُؤْيَتُهَا، فَيَغِيبُ عَنْ هَذِهِ الْعِلَلِ‏.‏

وَمَرَادُهُ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا‏:‏ إِعْدَامُهَا حَتَّى لَا تَحْضُرَهُ، لَا أَنَّهُ يَغِيبُ عَنْهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَائِمَةٌ، نَعَمْ؛ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ يُوصِلُهُ إِلَيْهِ بِهَا، وَيَفْرَحُ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ وَسَبْقِ الْأَوَّلِيَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ الِاكْتِسَابِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، بَلْ هَذَا أَكْمَلُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سُكُونٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَحٌ بِهِ، وَاعْتِقَادٌ أَنَّهُ هُوَ الْمُوَصِّلُ لِعَبْدِهِ إِلَيْهِ بِمَا مِنْهُ وَحْدَهُ، لَا بِحَوْلِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ‏.‏

وَالْحَاصِلُ‏:‏ أَنَّهُ إِذَا انْتَقَلَ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ إِلَى أَحْكَامِ الْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ غَابَتْ عَنْهُ عِلَلُ السَّعْيِ‏.‏

وَكَذَلِكَ تَغِيبُ عَنْهُ رُخَصُ الْفُتُورِ فَلَا يَنْظُرُ إِلَى عَزِيمَةِ السَّعْيِ، وَلَا يَقِفُ مَعَ رُخَصِ الْفُتُورِ، فَهُمَا آفَتَانِ لِلسَّالِكِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُجَرِّدَ عَزْمَهُ وَهِمَّتَهُ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا مِنْهُ، وَأَنَّ هِمَّتَهُ وَعَزِيمَتَهُ تَحْمِلُهُ وَتَقُومُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصٍ تُفَتِّرُ عَزْمَهُ وَهِمَّتَهُ، فَكَمَالُ جَدِّهِ وَصِدْقِهِ وَصِحَّةِ طَلَبِهِ يُخَلِّصُهُ مِنْ رُخَصِ الْفُتُورِ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَنَفْسِهِ يُخَلِّصُهُ مِنْ عِلَلِ السَّعْيِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ غَيْبَةُ الْعَارِفِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ وَالشَّوَاهِدِ وَالدَّرَجَاتِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ غَيْبَةُ الْعَارِفِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ وَالشَّوَاهِدِ وَالدَّرَجَاتِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ‏.‏

إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ أَعْلَى عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةَ الطَّالِبِ‏.‏

وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ غَيْبَتُهُ عَنْ خَيْرَاتٍ وَمَقَامَاتٍ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا وَأَشْرَفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ‏.‏

وَمَعْنَى غَيْبَتِهِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ هُوَ أَنْ لَا يَرَى الْأَحْوَالَ وَلَا تَرَاهُ، فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ لَهَا عُيُونًا؛ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ تَقْتَضِي وَجْدًا وَمَوْجُودًا وَوِجْدَانًا، وَهَذَا يُنَافِي الْفَنَاءَ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يَمْحُو أَثَرَ الرُّسُومِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِرَارًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ، وَغَيْرُهُ أَكْمَلُ مِنْهُ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ غَيْبَتُهُ عَنِ الشَّوَاهِدِ ‏"‏ فَقَدْ يُرِيدُ بِهَا شَوَاهِدَ الْمَعْرِفَةِ وَأَدِلَّتَهَا، فَيَغِيبُ بِمَعْرُوفِهِ عَنِ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فِي الْخَارِجِ وَفِي نَفْسِهِ‏.‏

وَقَدْ يُرِيدُ بِالشَّوَاهِدِ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَالْغَيْبَةُ عَنْهَا بِشُهُودِ الذَّاتِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا هُوَ أَعْلَى مِنْ شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بَلْ هَذَا الشُّهُودُ هُوَ شُهُودُ الْمُعَطِّلَةِ الْمُنْكِرِينَ لِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَهُونَ فِي فَنَائِهِمْ إِلَى شُهُودِ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ‏.‏

وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الْمَلَاحِدَةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَجَعَلُوا شُهُودَ نَفْسِ الْوُجُودِ- الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدَاتِ، وَعَنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ- هُوَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ عُلُّوًا كَبِيرًا، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ بَرَاءٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ شُهُودِهِمْ‏.‏

وَمُرَادُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِجَمِيعِ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، فَيُغَيِّبُهُ شُهُودُهُ لِهَذِهِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ شُهُودِ صِفَةٍ وَاسْمٍ‏.‏

فَالشَّوَاهِدُ هِيَ الْأَفْعَالُ الدَّالَّةُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلَذَّاتِ، وَشَوَاهِدُ الْمَعْرِفَةِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي حَصَلَتْ عَنْهَا الْمَعْرِفَةُ، فَإِذَا طَوَاهَا الشَّاهِدُ مِنْ وُجُودِهِ، وَشَهِدَ أَنَّهُ مَا عَرَفَ اللَّهَ إِلَّا بِهِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ غَابَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُهُ فِي مَشْهُودِهِ، كَمَا تَغِيبُ مَعَارِفُهُ فِي مَعْرُوفِهِ‏.‏

وَبِكُلِّ حَالٍ فَمَا عُرِفَ اللَّهُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا دَلَّ عَلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا أَوْصَلَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ الدَّالُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ‏.‏ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ‏:‏ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَهُوَ الْمُحِبُّ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا خَلَقَ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، وَالشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا أَجْرَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ عَبِيدِهِ وَقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، فَمِنْهُ السَّبَبُ وَهُوَ الْغَايَةُ ‏{‏هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الذَاكِرَ وَالْمَذْكُورَ وَالذِّكْرَ، وَالْعَارِفَ وَالْمَعْرُوفَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَالْمُحِبَّ وَالْمَحْبُوبَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، وَأَنَّ الَّذِي عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ هُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَظَاهِرُهُ، فَالظَّاهِرُ فِيهَا وَاحِدٌ، ظَهَرَ بِوُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ فِيهَا، فَوُجُودُهَا عَيْنُ وُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ فَاضَ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَكْفَرُ مِنْ كُلِّ كُفْرٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ إِلْحَادٍ‏.‏

وَالْمُوَحِّدُونَ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّمَا فَاضَ عَلَيْهَا إِيجَادُهُ لَا وُجُودُهُ، فَظَهَرَ فِيهَا فِعْلُهُ، بَلْ أَثَرُ فِعْلِهِ لَا ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ، فَقَامَتْ بِهِ فَقْرًا إِلَيْهِ وَاحْتِياجًا لَا وُجُودًا وَذَاتًا، وَأَقَامَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ لَا بِظُهُورِهِ فِيهَا‏.‏

وَلَقَدْ لَحَظَ مَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ أَمْرًا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ فِي وَحْدَةِ الْمُوجِدِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِتَوْحِيدِ الْوُجُودِ، وَفَيَضَانِ جُودِهِ بِفَيَضَانِ وَجُودِهِ، فَوَحَّدُوا الْوُجُودَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَصَارُوا عَبِيدَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ، وَعَبِيدُ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجَةِ فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ وُجُودَهَا عِنْدَهُمْ‏:‏ هُوَ الْمُسَمَّى بِاللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْإِلْحَادِ الَّذِي ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا‏}‏ وَسُبْحَانَ مَنْ هُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ‏.‏

أَيْنَ حَقِيقَةُ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ مِنْ ذَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏؟‏ أَيْنَ الْمُكَوَّنُ مِنْ تُرَابٍ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ‏؟‏ أَيْنَ الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ إِلَى الْغَنِيِّ بِالذَّاتِ‏؟‏ أَيْنَ وُجُودُ مَنْ يَضْمَحِلُّ وَجُودُهُ وَيَفُوتُ إِلَى حَقِيقَةِ وُجُودِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏؟‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ التَّمَكُّنِ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

‏(‏بَابُ التَّمَكُّنِ‏)‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ لَا يُبَالِي بِكَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ، وَلَا بِمُخَالَطَةِ أَصْحَابِ الْغَفَلَاتِ، وَلَا بِمُعَاشَرَةِ أَهْلِ الْبَطَالَاتِ، بَلْ قَدْ تَمَكَّنَ بِصَبْرِهِ وَيَقِينِهِ عَنِ اسْتِفْزَازِهِمْ إِيَّاهُ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ لَهُ هَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ التَّمَكُّنِ‏.‏ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ‏}‏ فَمَنْ وَفَّى الصَّبْرَ حَقَّهُ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لَمْ يَسْتَفِزَّهُ الْمُبْطِلُونَ، وَلَمْ يَسْتَخِفَّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ وَمَتَى ضَعُفَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ- أَوْ كِلَاهُمَا- اسْتَفَزَّهُ هَؤُلَاءِ وَاسْتَخَفَّهُ هَؤُلَاءِ، فَجَذَبُوهُ إِلَيْهِمْ بِحَسَبِ ضَعْفِ قُوَّةِ صَبْرِهِ وَيَقِينِهِ، فَكُلَّمَا ضَعُفَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوِيَ جَذْبُهُمْ لَهُ، وَكُلَّمَا قَوِيَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ قَوِيَ انْجِذَابُهُ مِنْهُمْ وَجَذْبُهُ لَهُمْ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏التَّمَكُّنُ وَالطُّمَأْنِينَةُ‏]‏

قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ التَّمَكُّنُ‏:‏ فَوْقَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى غَايَةِ الِاسْتِقْرَارِ

التَّمَكُّنُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَيُسَمَّى مَكَانَةً أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ‏:‏ عَلَى مَنِ انْتَقَلَ إِلَى مَقَامِ الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ وَهُوَ الْوُصُولُ عِنْدَهُمْ، وَحَقِيقَتُهُ‏:‏ ظَفَرُ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ تَتَوَارَى عَنْهُ أَحْكَامُ الْبَشَرِيَّةِ بِطُلُوعِ شَمْسِ الْحَقِيقَةِ وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِهَا، فَإِذَا دَامَتْ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ- أَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ- فَهُوَ صَاحِبُ تَمْكِينٍ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ التَّمَكُّنُ‏:‏ فَوْقَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى غَايَةِ الِاسْتِقْرَارِ إِنَّمَا كَانَ فَوْقَ الطُّمَأْنِينَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعَ نَوْعٍ مِنَ الْمُنَازَعَةِ، فَيَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إِلَى مَا يَسْكُنُهُ، وَقَدْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّمَكُّنُ هُوَ غَايَةُ الِاسْتِقْرَارِ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْمَكَانِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقَامُهُ مَكَانًا لِقَلْبِهِ قَدْ تَبَوَّأَهُ مَنْزِلًا وَمُسْتَقَرًّا‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ التَّمَكُّنِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَمَكُّنُ الْمُرِيدِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ التَّمَكُّنُ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ تَمَكُّنُ الْمُرِيدِ؛ وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِحَّةُ قَصْدٍ يُسَيِّرُهُ، وَلَمْعُ شُهُودِهِ يَحْمِلُهُ، وَسِعَةُ طَرِيقٍ تُرَوِّحُهُ‏.‏

الْمُرِيدُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ‏:‏ هُوَ الَّذِي قَدْ شَرَعَ فِي السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ فَوْقَ الْعَابِدِ وَدُونَ الْوَاصِلِ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ بِحَسْبِ حَالِ السَّالِكِينَ، وَإِلَّا فَالْعَابِدُ مُرِيدٌ، وَالسَّالِكُ مُرِيدٌ، وَالْوَاصِلُ مُرِيدٌ، فَالْإِرَادَةُ لَا تُفَارِقُ الْعَبْدَ مَا دَامَ تَحْتَ حُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ لِلتَّمَكُّنِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَيْ‏:‏ دَرَجَةُ تَمَكُّنِ الْمُرِيدِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ‏:‏ صِحَّةُ قَصْدٍ، وَصِحَّةُ عِلْمٍ، وَسِعَةُ طَرِيقٍ، فَبِصِحَّةِ الْقَصْدِ يَصِحُّ سَيْرُهُ، وَبِصِحَّةِ الْعِلْمِ تَنْكَشِفُ لَهُ الطَّرِيقُ، وَبِسِعَةِ الطَّرِيقِ يَهُونُ عَلَيْهِ السَّيْرُ، وَكُلُّ طَالِبِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَيُّنِ مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَالْأَخْذُ فِي السُّلُوكِ، فَمَتَى فَاتَهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ‏:‏ لَمْ يَصِحَّ طَلَبُهُ وَلَا سَيْرُهُ، فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ مَطْلُوبٍ يَتَعَيَّنُ إِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَطَلَبٍ يَقُومُ بِقَصْدِ مَنْ يَقْصِدُهُ، وَطَرِيقٍ تُوَصِّلُ إِلَيْهِ‏.‏

فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِطَلَبِ رَبِّهِ وَحْدَهُ‏:‏ تَعَيَّنَ مَطْلُوبُهُ، فَإِذَا بَذَلَ جُهْدَهُ فِي طَلَبِهِ صَحَّ لَهُ طَلَبُهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ صَحَّ لَهُ طَرِيقُهُ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ وَالطَّرِيقِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْمَطْلُوبِ وَتَعَيُّنِهِ‏.‏

فَحُكْمُ الْقَصْدِ يُتَلَقَّى مِنْ حُكْمِ الْمَقْصُودِ، فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ أَهْلًا لِلْإِيثَارِ كَانَ الْقَصْدُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ كَذَلِكَ، فَالْقَصْدُ وَالطَّرِيقُ تَابِعَانِ لِلْمَقْصُودِ‏.‏

وَتَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ‏:‏ أَنْ يُوَافِقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقْصُودِهِ وَقَصْدِهِ وَطَرِيقِهِ، فَمَقْصُودُهُ‏:‏ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَقَصْدُهُ‏:‏ تَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي خَلْقِهِ، وَطَرِيقُهُ‏:‏ اتِّبَاعُ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَصَحِبَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَحِقُوا بِهِ، ثُمَّ جَاءَ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَمَضَوْا عَلَى آثَارِهِمْ‏.‏

ثُمَّ تَفَرَّقَتِ الطُّرُقُ بِالنَّاسِ، فَخِيَارُ النَّاسِ مَنْ وَافَقَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَالطَّرِيقِ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَالطَّرِيقِ؛ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ بِالْمَعْبُودِ، وَالْبِدْعَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَخَالَفَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ فِي الطَّرِيقِ وَخَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ‏.‏

فَمَنْ كَانَ مُرَادُهُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَدْ وَافَقَهُ فِي الْمَقْصُودِ، فَإِنْ عَبَدَ اللَّهَ بِمَا بِهِ أَمَرَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ وَافَقَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ عَبَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَهُ فِي الطَّرِيقِ‏.‏

وَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ- مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِبَادَةِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا- الرِّيَاسَةَ، فَقَدْ خَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ، وَإِنْ تَقَيَّدَ بِالْأَمْرِ‏.‏

فَإِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ، فَقَدْ خَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَالطَّرِيقِ‏.‏

فَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَقَوْلُ الشَّيْخِ ‏"‏ تَمَكُّنُ الْمُرِيدِ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِحَّةُ قَصْدٍ يُسَيِّرُهُ ‏"‏ إِشَارَةً إِلَى صِحَّةِ الْقَصْدِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَمْعُ شُهُودٍ يَحْمِلُهُ ‏"‏ إِشَارَةً إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَقْصُودِ، وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ كَشْفٌ يَحْمِلُهُ عَلَى سُلُوكِهِ، فَإِنَّ السَّالِكَ إِذَا كُشِفَ لَهُ عَنْ مَقْصُودِهِ- حَتَّى كَأَنَّهُ يُعَايِنُهُ- جَدَّ فِي طَلَبِهِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُ رُخَصُ الْفُتُورِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَسِعَةُ طَرِيقٍ تُرَوِّحُهُ ‏"‏ إِشَارَةً إِلَى صِحَّةِ طَرِيقِهِ، وَذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ‏:‏ بِسِعَتِهَا حَتَّى لَا تَضِيقَ عَلَيْهِ، فَيَعْجَزُ عَنْ سُلُوكِهَا، وَبِاسْتِقَامَتِهَا حَتَّى لَا يَزِيغَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاسِعَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَطُرُقَ الْبَاطِلِ ضَيِّقَةٌ مُعْوَجَّةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُسُوخِ الشَّيْخِ فِي الْعِلْمِ، وَوُقُوفِهِ مَعَ السُّنَّةِ، وَفِقْهِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَمَكُّنُ السَّالِكِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ تَمَكُّنُ السَّالِكِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِحَّةُ انْقِطَاعٍ، وَبَرْقُ كَشْفٍ، وَضِيَاءُ حَالٍ‏.‏

هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَتَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا، فَإِنَّ تِلْكَ تَمَكُّنٌ فِي تَصْحِيحِ قَصْدِ الْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ تَمَكُّنٌ فِي حَالِ التَّمَكُّنِ، وَالتَّمَكُّنُ فِي الْحَالِ أَبْلَغُ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْقَصْدِ‏.‏

وَيُرِيدُ بِصِحَّةِ الِانْقِطَاعِ‏:‏ انْقِطَاعَ قَلْبِهِ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَتَعَلُّقَهُ بِالشَّوَاغِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَكْدَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ لِقَلْبِهِ ‏"‏ بَرْقُ كَشْفٍ ‏"‏ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ لَهُ كَالْعِيَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَحَالُهُ مَعَ اللَّهِ صَافٍ مِنْ مُعَارَضَاتِ السِّوَى، فَلَا يُعَارِضُ كَشْفُهُ شُبْهَةً، وَلَا هِمَّتُهُ إِرَادَةً، بَلْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ فِي انْقِطَاعِهِ وَشُهُودِهِ وَحَالِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَمَكُّنُ الْعَارِفِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ تَمَكُّنُ الْعَارِفِ، وَهُوَ أَنْ يَحْصُلَ فِي الْحَضْرَةِ فَوْقَ حَجْبِ الطَّلَبِ لَابِسًا نُورَ الْوُجُودِ‏.‏

الْعَارِفُ فَوْقَ السَّالِكِ دَرَجَةُ الْعَارِفِ، وَلَا يُفَارِقُهُ السُّلُوكُ، لَكِنَّهُ مَعَ السُّلُوكِ قَدْ ظَفِرَ بِالْمَعْرِفَةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا اسْمًا أَخَصَّ مِنَ اسْمِ السَّالِكِ، وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّهَا لَا تُفَارِقُ مَنْ تَرَقَّى فِيهَا، وَلَكِنْ إِذَا تَرَقَّى فِي مَقَامٍ أَخَذَ اسْمَهُ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مَعَ ثُبُوتِ الْأَوَّلِ لَهُ‏.‏

وَالْحَضْرَةُ يُرَادُ بِهَا حَضْرَةُ الْجَمْعِ، وَعِنْدِي‏:‏ أَنَّهَا حَضْرَةُ دَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، هَذِهِ حَضْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعَارِفِينَ‏.‏

وَأَمَّا حَضْرَةُ الْجَمْعِ- الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا- فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ، فَأَهْلُ الْفَنَاءِ يُرِيدُونَ حَضْرَةَ جَمْعِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَهْلُ الْإِلْحَادِ‏:‏ يُرِيدُونَ حَضْرَةَ جَمْعِ الْوُجُودِ فِي وُجُودٍ وَاحِدٍ، وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّالِكِينَ يُرِيدُونَ حَضْرَةَ جَمْعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ‏.‏

وَإِذَا فُسِّرَتْ بِحَضْرَةِ دَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّمَكُّنِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنَ وَأَصَحَّ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَضْرَةِ- لِدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ- قَدِ انْقَشَعَتْ عَنْهُ سُحُبُ الْغَفَلَاتِ، وَلَمْ تَشْغَلْهُ عَنْ تِلْكَ الْحَضْرَةِ الشَّوَاغِلُ الْمُلْهِيَاتُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ فَوْقَ حُجُبِ الطَّلَبِ ‏"‏ يَعْنِي أَنَّ الْعَارِفَ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْ مَقَامِ الطَّلَبِ لِلْمَعْرِفَةِ إِلَى مَقَامِ حُصُولِهَا، وَالطَّالِبُ لِلْأَمْرِ دُونَ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ، فَالطَّالِبُ بَعُدَ فِي حِجَابِ طَلَبِهِ، وَالْعَارِفُ قَدِ ارْتَفَعَ فَوْقَ حِجَابِ الطَّلَبِ بِمَا شَاهَدَهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، فَالطَّالِبُ شَيْءٌ، وَالْوَاجِدُ شَيْءٌ‏.‏

وَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ، فَإِنَّ الطَّلَبَ لَا يُفَارِقُ الْعَبْدَ، مَا دَامَتْ أَحْكَامُ الْعُبُودِيَّةِ تَجْرِي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مُتَنَقِّلٌ فِي مَنَازِلِ الطَّلَبِ، يَنْتَقِلُ مِنْ عُبُودِيَّةٍ إِلَى عُبُودِيَّةٍ، وَالْمَعْبُودُ وَاحِدٌ جَلَّ وَعَلَا، لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَجَرُّدُ الْمَعْرِفَةِ عَنِ الطَّلَبِ‏؟‏

هَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَظَنَّ الْمَخْدُوعُونَ الْمَغْرُورُونَ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَغْنَوْا بِالْمَعْرِفَةِ عَنِ الطَّلَبِ، وَأَنَّ الطَّلَبَ وَسِيلَةٌ وَالْمَعْرِفَةَ غَايَةٌ، وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ‏.‏

فَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَنِ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَعْدَ أَنْ شَمَّرُوا فِي السَّيْرِ فِيهَا، فَرُدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَلَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِذِكْرِ حَجْبِ الطَّلَبِ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا مِنْكَ حِجَابٌ عَلَى مَطْلُوبِكَ، فَإِنْ وَقَفْتَ مَعَهُ فَأَنْتَ دُونَ الْحِجَابِ، وَإِنْ قَطَعْتَهُ إِلَى تَجْرِيدِ الْمَطْلُوبِ صِرْتَ فَوْقَ الْحِجَابِ، فَطَلَبُكَ وَإِرَادَتُكَ وَتَوَكُّلُكَ، وَحَالُكُ وَعَمَلُكَ كُلُّهُ حِجَابٌ، إِنْ وَقَفْتَ مَعَهُ أَوْ رَكَنْتَ إِلَيْهِ، وَإِنْ جَاوَزْتَهُ إِلَى الَّذِي أَنْتَ بِهِ وَلَهُ وَفِي يَدَيْهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ لَكَ ذَرَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا بِهِ وَمِنْهُ، وَلَمْ تَقِفْ مَعَ طَلَبِكَ‌ فِي إِرَادَتِكَ فَقَدْ صِرْتَ فَوْقَ حِجَابِ الطَّلَبِ‏.‏

فَفِي الْحَقِيقَةِ‏:‏ أَنْتَ حِجَابُ قَلْبِكَ عَنْ رَبِّكِ، فَإِذَا كَشَفْتَ الْحِجَابَ عَنِ الْقَلْبِ أَفْضَى إِلَى الرَّبِّ، وَوَصَلَ إِلَى الْحَضْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ‏.‏

وَقَوْلُنَا‏:‏ ‏"‏ إِذَا كَشَفْتَ الْحِجَابَ ‏"‏ إِخْبَارٌ عَنْ مَحَلِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِلَّا فَكَشْفُهُ لَيْسَ بِيَدِكَ، وَلَا أَنْتَ الْكَاشِفُ لَهُ، فَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ‏.‏

وَمِنْ أَعْظَمِ الضُّرِّ‏:‏ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ، وَهُوَ أَعْظَمُ عَذَابًا مِنَ الْجَحِيمِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمَ‏}‏‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ لَابِسًا نُورَ الْوُجُودِ ‏"‏ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ‏:‏ أَنَّ نُورَ الْوُجُودِ نُورُ ظَفَرِهِ بِإِقْبَالِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَمْعِ هَمِّهِ عَلَيْهِ، وَفَنَائِهِ بِمُرَادِهِ عَنْ مُرَادِ نَفْسِهِ، فَصَارَ وَاجِدًا لِمَا أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَاقِدٌ لَهُ، قَدْ لَبِسَ قَلْبَهُ نُورُ ذَلِكَ الْوُجُودِ، حَتَّى فَاضَ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَحَرَكَاتِهِ وَسَكْنَاتِهِ، فَإِنْ نَطَقَ عَلَاهُ النُّورُ وَإِنْ سَكَتَ عَلَاهُ النُّورُ‏.‏

وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا‏:‏ أَنَّهُ قَدْ فَاضَ عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْيَقِينِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَصَارَ لِقَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا، وَذَوْقِ حَلَاوَةِ ذَلِكَ نُورٌ خَاصٌّ غَيْرُ مُجَرَّدِ نُورِ الْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِ هَذَا ‏{‏فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّيْخِ بِالْوُجُودِ مَا يُرِيدُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ، وَلَا مَا يُرِيدُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ الْمَلَاحِدَةُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِهِ الْوِجْدَانُ بَعْدَ الْفَقْدِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ فُلَانٌ وَاجِدٌ، وَفُلَانٌ فَاقِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمُكَاشَفَةِ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

‏(‏بَابُ الْمُكَاشَفَةِ‏)‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏}‏‏.‏

وَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَشَفَ لِعَبْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَكْشِفْهُ لِغَيْرِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَحَصَلَ لِقَلْبِهِ الْكَرِيمِ مِنَ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَخْطُرُ بِبَالِ غَيْرِهِ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَالْإِيحَاءُ هُوَ الْإِعْلَامُ السَّرِيعُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ الْوَحَا الْوَحَا؛ أَيِ‏:‏ الْإِسْرَاعُ الْإِسْرَاعُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ مَا أَوْحَى ‏"‏ أَبْهَمَهُ لِعِظَمِهِ، فَإِنَّ الْإِبْهَامَ قَدْ يَقَعُ لِلتَّعْظِيمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَوْقَ الصِّفَةِ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ الْمُكَاشَفَةُ مَعْنَاهَا‏:‏ مُهَادَاةُ السِّرِّ بَيْنَ مُتَبَاطِنَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ إِطْلَاعُ أَحَدِ الْمُتَحَابَّيْنِ الْمُتَصَافِيَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ وَسِرِّهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ مُهَادَاةُ السِّرِّ ‏"‏ أَيْ‏:‏ تَرَدُّدُ السِّرِّ عَلَى وَجْهِ الْإِلْطَافِ وَالْمَوَدَّةِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ بَيْنَ مُتَبَاطِنَيْنِ ‏"‏ يَعْنِي بِالْمُتَبَاطِنَيْنِ‏:‏ بَاطِنُ الْمُكَاشِفِ وَالْمُكَاشَفِ، فَيُحْمَلُ سِرُّ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، كَمَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ هَدِيَّتُهُ، فَيَسْرِي سِرُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَإِذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى حَدٍّ كَأَنَّهُ يُطَالِعُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَلَالِ عِبَادَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَأَحَسَّتْ رُوحُهُ بِالْقُرْبِ الْخَاصِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ كَقُرْبِ الْمَحْسُوسِ مِنَ الْمَحْسُوسِ، حَتَّى يُشَاهِدَ رَفْعَ الْحِجَابِ بَيْنَ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِنَّ حِجَابَهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ ذَلِكَ الْحِجَابَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَفْضَى الْقَلْبُ وَالرُّوحُ حِينَئِذٍ إِلَى الرَّبِّ، فَصَارَ يَعْبُدُهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ بِذَلِكَ، وَارْتَفَعَ عَنْهُ حِجَابُ النَّفْسِ، وَانْقَشَعَ عَنْهُ ضَبَابُهَا وَدُخَانُهَا وَكُشِطَتْ عَنْهُ سُحُبُهَا وَغُيُومُهَا، فَهُنَاكَ يُقَالُ لَهُ‏:‏

بِذَلِكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتَتَامُـــهُ *** وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامُهُ

فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِـهِ *** وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطَبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُــــهُ

فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَــتْ *** عَلَى مَنْكِبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ

وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُــــهُ *** شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُـــــهُ

إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ زَالَ عَنَاؤُهَــا *** وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ قَتَامُــهُ

فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ وَهِيَ فِي هَذَا الْبَابِ‏:‏ بُلُوغُ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ وُجُودًا مَعْنَاهَا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وُجُودًا ‏"‏ احْتِرَازٌ مِنْ بُلُوغِهِ سَمَاعًا وَعِلْمًا، وَكَثِيرًا مَا يَلْتَبِسُ عَلَى الْعَبْدِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَأَيْنَ وُجُودُ الْحَقِيقَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا وَمَعْرِفَتِهَا‏؟‏ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْقَلْبِ شَيْءٌ، وَاتِّصَافُهُ بِالْمَعْلُومِ شَيْءٌ آخَرُ‏.‏

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَمَاعُ ذَلِكَ دُونَ فَهْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَهْمُهُ دُونَ حَقِيقَتِهِ، وَالتَّعَلُّقُ الْكَامِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ بُلُوغُ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ وُجُودًا‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْمُكَاشَفَةُ ثَلَاثٌ هِيَ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ مُكَاشَفَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ مُسْتَدَامَةً، فَإِذَا كَانَتْ حِينًا دُونَ حِينٍ، وَلَمْ يُعَارِضْهَا تَفَرُّقٌ، غَيْرَ أَنَّ الْغَيْنَ رُبَّمَا شَابَ مَقَامَهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَلْفِتُهُ قَاطِعٌ، وَلَا يَلْوِيهِ سَبَبٌ، وَلَا يَقْتَطِعُهُ حَظٌّ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْقَاصِدِ، فَإِذَا اسْتَدَامَتْ فَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏.‏

الْمُكَاشَفَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ‏:‏ عُلُومٌ يُحْدِثُهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُطْلِعُهُ بِهَا عَلَى أُمُورٍ تَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يُوَالِيهَا وَقَدْ يُمْسِكُهَا عَنْهُ بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا، وَيُوَارِيهَا عَنْهُ بِالْغَيْنِ الَّذِي يَغْشَى قَلْبَهُ، وَهُوَ أَرَقُّ الْحُجُبِ، أَوْ بِالْغَيْمِ، وَهُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ أَوْ بِالرَّانِ، وَهُوَ أَشَدُّهَا‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ‏:‏ هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ يُغَطِّي الْقَلْبَ حَتَّى يَصِيرَ كَالرَّانِ عَلَيْهِ‏.‏

وَالْحُجُبُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ هِيَ الْأَوَّلُ‏:‏ حِجَابُ التَّعْطِيلِ، وَنَفْيُ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ أَغْلَظُهَا، فَلَا يَتَهَيَّأُ لِصَاحِبِ هَذَا الْحِجَابِ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ، وَلَا يَصِلَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا كَمَا يَتَهَيَّأُ لِلْحَجَرِ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى فَوْقَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ حِجَابُ الشِّرْكِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَبَّدَ قَلْبُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ حِجَابُ الْبِدْعَةِ الْقَوْلِيَّةِ، كَحِجَابِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَالْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ حِجَابُ الْبِدْعَةِ الْعَمَلِيَّةِ، كَحِجَابِ أَهْلِ السُّلُوكِ الْمُبْتَدِعِينَ فِي طَرِيقِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ حِجَابُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ، كَحِجَابِ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَنَحْوِهَا‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ حِجَابُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَحِجَابُهُمْ أَرَقُّ مِنْ حِجَابِ إِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ، مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَاتِهِمْ وَزَهَادَاتِهِمْ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ، فَكَبَائِرُ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ كَبَائِرِ أُولَئِكَ، فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ مَقَامَاتٍ لَهُمْ لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ إِظْهَارِهَا وَإِخْرَاجِهَا فِي قَوَالِبَ عِبَادَةٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَأَهْلُ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ أَدْنَى إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهُمْ‏.‏ وَقُلُوبُهُمْ خَيْرٌ مِنْ قُلُوبِهِمْ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ حِجَابُ أَهْلِ الصَّغَائِرِ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ حِجَابُ أَهْلِ الْفَضَلَاتِ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ حِجَابُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ عَنِ اسْتِحْضَارِ مَا خُلِقُوا لَهُ وَأُرِيدَ مِنْهُمْ، وَمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ دَوَامِ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ حِجَابُ الْمُجْتَهِدِينَ السَّالِكِينَ، الْمُشَمِّرِينَ فِي السَّيْرِ عَنِ الْمَقْصُودِ‏.‏

فَهَذِهِ عَشْرُ حُجُبٍ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الشَّأْنِ، وَهَذِهِ الْحُجُبُ تَنْشَأُ مِنْ أَرْبَعَةِ عَنَاصِرَ وَهِيَ‏:‏ عُنْصُرُ النَّفْسِ، وَعُنْصُرُ الشَّيْطَانِ، وَعُنْصُرُ الدُّنْيَا، وَعُنْصُرُ الْهَوَى، فَلَا يُمْكِنُ كَشْفُ هَذِهِ الْحُجُبِ مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا وَعَنَاصِرِهَا فِي الْقَلْبِ أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْعَنَاصِرُ‏:‏ تُفْسِدُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالْقَصْدَ وَالطَّرِيقَ بِحَسْبِ غَلَبَتِهَا وَقِلَّتِهَا، فَتَقْطَعُ طَرِيقَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْقَصْدِ‏:‏ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ، وَمَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى الْقَلْبِ قَطَعَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ‏:‏ أَنْ يَصِلَ إِلَى الرَّبِّ، فَبَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ مَسَافَةٌ يُسَافِرُ فِيهَا الْعَبْدُ إِلَى قَلْبِهِ لِيَرَى عَجَائِبَ مَا هُنَالِكَ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورُونَ، فَإِنْ حَارَبَهُمْ وَخَلَصَ الْعَمَلُ إِلَى قَلْبِهِ دَارَ فِيهِ، وَطَلَبَ النُّفُوذَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ دُونَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ ‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى‏}‏ فَإِذَا وَصَلَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَثَابَهُ عَلَيْهِ مَزِيدًا فِي إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ وَعَقْلِهِ، وَجَمَّلَ بِهِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، فَهَدَاهُ بِهِ لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَصَرَفَ عَنْهُ بِهِ سَيِّئَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ لِلْقَلْبِ جُنْدًا يُحَارِبُ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَيُحَارِبُ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ فِيهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ قَلْبِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ وَبَيْتِهِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ يَقِينِهِ بِالْآخِرَةِ، يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ بِتَرْكِ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْهَوَى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْهَوَى لَا يُفَارِقُهُ، وَيُحَارِبُ الْهَوَى بِتَحْكِيمِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ وَالْوُقُوفِ مَعَهُ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ هَوًى فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَتْرُكُهُ، وَيُحَارِبُ النَّفْسَ بِقُوَّةِ الْإِخْلَاصِ‏.‏

هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَجَدَ الْعَمَلُ مَنْفَذًا مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنْ دَارَ فِيهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْفَذًا وَثَبَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ، فَأَخَذَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ جُنْدًا لَهَا، فَصَالَتْ بِهِ وَعَلَتْ وَطَغَتْ، فَتَرَاهُ أَزْهَدُ مَا يَكُونُ، وَأَعْبَدُ مَا يَكُونُ، وَأَشَدُّ اجْتِهَادًا، وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ اللَّهِ، وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ أَقْرَبُ قُلُوبًا إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَأَدْنَى مِنْهُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالْخَلَاصِ‏.‏

فَانْظُرْ إِلَى السَّجَّادِ الْعَبَّادِ الزَّاهِدِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ، كَيْفَ أَ‍وْرَثَهُ طُغْيَانُ عَمَلِهِ أَنْ أَنْكَرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْرَثَ أَصْحَابَهُ احْتِقَارَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى سَلَّوْا عَلَيْهِمْ سُيُوفَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا دِمَاءَهُمْ‏.‏

وَانْظُرْ إِلَى الشِّرِّيبِ السِّكِّيرِ الَّذِي كَانَ كَثِيرًا مَا يُؤْتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَحُدُّهُ عَلَى الشَّرَابِ، كَيْفَ قَامَتْ بِهِ قُوَّةُ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَوَاضُعِهِ وَانْكِسَارِهِ لِلَّهِ حَتَّى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَعْنِهِ‏.‏

فَظَهَرَ بِهَذَا‏:‏ أَنَّ طُغْيَانَ الْمَعَاصِي أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ طُغْيَانِ الطَّاعَاتِ‏.‏

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا مُوسَى، أَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ، فَإِنِّي لَا أَضَعُ عَدْلِي عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَذَّبْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْلِمَهُ، وَبَشِّرِ الْخَطَّائِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُنِي ذَنْبٌ أَنْ أَغْفِرَهُ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ مُكَاشَفَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ الصَّحِيحِ ‏"‏ كُلٌّ يَدَّعِي أَنَّ التَّحْقِيقَ الصَّحِيحَ مَعَهُ‏.‏

وَكُلٌّ يَدَّعُونَ وِصَالَ لَيْلَــى *** وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِــذَاكَ

إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ *** تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَــى

فَلَيْسَ التَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ‏:‏ إِلَّا الْمُطَابِقُ لِمَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْعِلْمِ الْكَشْفُ الْمُطَابِقُ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ، وَفِي الْإِرَادَةِ‏:‏ الْكَشْفُ الْمُطَابِقُ لِمُرَادِ الرَّبِّ الدِّينِيِّ مِنْ عَبْدِهِ، وَقَوْلُنَا ‏"‏ الدِّينِيُّ ‏"‏ احْتِرَازٌ مِنْ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ، فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكَوْنِ مُوجِبُ هَذِهِ الْإِرَادَةِ‏.‏

فَالْكَشْفُ الصَّحِيحُ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مُعَايَنَةً لِقَلْبِهِ، وَيُجَرِّدَ إِرَادَةَ الْقَلْبِ لَهُ، فَيَدُورُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ، وَمَا خَالَفَهُ فَغُرُورٌ قَبِيحٌ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهِيَ لَا تَكُونُ مُسْتَدَامَةً ‏"‏ هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسَخٍ وَفِي أُخْرَى ‏"‏ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَدِيمَةً ‏"‏ وَكَأَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَدَامَةٍ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى، فَإِذَا اسْتَدَامَتْ صَارَتْ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ مُسْتَدَامَةً فِيهِمَا لَكَانَتِ الدَّرَجَتَانِ وَاحِدَةً‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ فَإِذَا كَانَتْ حِينًا دُونَ حِينٍ، وَلَمْ يُعَارِضْهَا تَفَرُّقٌ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ فَهِيَ الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْطَعَ حُكْمَهَا تَفَرُّقٌ، وَلِهَذَا قَالَ‏:‏ لَمْ يُعَارِضْهَا، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا، فَإِنَّ التَّفَرُّقَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ، لَكِنْ لَا يُعَارِضُهَا وَيُقَاوِمُهَا بِحَيْثُ يُزِيلُهَا، فَإِنَّ الْعَارِضَ إِذَا عَرَضَ لِلْقَلْبِ كَرِهَهُ وَمَحَاهُ وَأَزَالَهُ بِسُرْعَةٍ‏.‏

وَأَمَّا الْمُعَارِضُ‏:‏ فَإِنَّهُ يُزِيلُ الْحَاصِلَ وَيَخْلُفُهُ، فَيَصِيرُ الْحُكْمُ لَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ غَيْرَ أَنَّ الْغَيْنَ رُبَّمَا شَابَ مَقَامَهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا، إِلَى آخِرِهِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ لَوَازِمَ الْبَشَرِيَّةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَخَفَّهَا، وَهُوَ الْحِجَابُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَعْرِضُ لِقَلْبِهِ، وَهُوَ الْغَيْنُ لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَلْفِتُهُ قَاطِعٌ أَيْ‏:‏ لَا تُوجِبُ لَهُ الْقَوَاطِعُ الْتِفَاتَ قَلْبِهِ عَنْ مَقَامِهِ إِلَيْهَا، بَلْ إِذَا لَحَظَهَا بِقَلْبِهِ فَرَّ مِنْهَا، كَمَا يَفِرُّ الظَّبْيُ مِنَ الْكَلْبِ الصَّائِدِ إِذَا أَحَسَّ بِهِ وَلَا يَلْوِيهِ سَبَبٌ؛ أَيْ‏:‏ لَا يُعَوِّجُ قَصْدَهُ لِلْحَقِّ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَا يَقْطَعُهُ حَظٌّ ‏"‏ أَيْ‏:‏ لَا يَقْطَعُهُ عَنْ بُلُوغِ مَقْصُودِهِ حَظٌّ مِنَ الْحُظُوظِ النَّفْسِيَّةِ، وَ ‏"‏ الْقَاصِدُ ‏"‏ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ‏:‏ هُوَ الَّذِي قَدْ ظَفِرَ بِالْقَصْدِ الَّذِي لَا يَلْقَى سَبَبًا إِلَّا قَطَعَهُ، وَلَا حَائِلًا إِلَّا مَنَعَهُ، وَلَا تَحَامُلًا إِلَّا سَهَّلَهُ‏.‏ فَهَذِهِ دَرَجَةُ الْقَاصِدِ، فَإِذَا اسْتَدَامَتْ وَتَمَكَّنَ فِيهَا السَّالِكُ فَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ فَمُكَاشَفَةُ عَيْنٍ، لَا مُكَاشَفَةُ عِلْمٍ، وَهِيَ مُكَاشَفَةٌ لَا تَذَرُ سِمَةً تُشِيرُ إِلَى الْتِذَاذٍ، أَوْ تُلْجِئُ إِلَى تَوَقُّفٍ، أَوْ تَنْزِلُ إِلَى رَسْمٍ، وَغَايَةُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ الْمُشَاهَدَةُ‏.‏

إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ مُكَاشَفَةُ عَيْنٍ لِغَلَبَةِ نُورِ الْكَشْفِ عَلَى الْقَلْبِ، فَتَنَزَّلَتْ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ مِنَ الْقَلْبِ، وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ، بَلْ صَارَتْ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ لِلْبَصَرِ، وَالْمَسْمُوعِ لِلْأُذُنِ وَالْوِجْدَانِيَّاتِ لِلنَّفْسِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ بِالْبَصَرِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ صِحَّةِ الْقُوَّةِ الْمُدْرَكَةِ، وَعَدَمِ الْحَائِلِ- مِنْ جِسْمٍ أَوْ ظُلْمَةٍ، وَانْتِفَاءِ الْبُعْدِ الْمُفْرِطِ- فَكَذَلِكَ الْمُكَاشَفَةُ بِالْبَصِيرَةِ تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الْقَلْبِ، وَعَدَمَ الْحَائِلِ وَالشَّاغِلِ، وَقُرْبَ الْقَلْبِ مِمَّنْ يُكَاشِفُهُ بِأَسْرَارِهِ‏.‏

وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّيْخِ فِي هَذَا الْبَابِ‏:‏ الْكَشْفَ الْجُزْئِيَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، كَالْكَشْفِ عَمَّا فِي دَارِ إِنْسَانٍ، أَوْ عَمَّا فِي يَدِهِ، أَوْ تَحْتَ ثِيَابِهِ، أَوْ مَا حَمَلَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَمَا غَابَ عَنِ الْعِيَانِ مِنْ أَحْوَالِ الْبُعْدِ الشَّاسِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ تَارَةً، وَمِنَ النَّفْسِ تَارَةً، وَلِذَلِكَ يَقَعُ مِنَ الْكُفَّارِ، كَالنَّصَارَى، وَعَابِدِي النِّيرَانِ وَالصُّلْبَانِ، فَقَدْ كَاشَفَ ابْنُ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَضْمَرَهُ لَهُ وَخَبَّأَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَشْفَ مِنْ جِنْسِ كَشْفِ الْكُهَّانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْرُهُ، وَكَذَلِكَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابِ- مَعَ فَرْطِ كُفْرِهِ- كَانَ يُكَاشِفُ أَصْحَابَهُ بِمَا فَعَلَهُ أَحَدُهُمْ فِي بَيْتِهِ وَمَا قَالَهُ لِأَهْلِهِ، يُخْبِرُهُ بِهِ شَيْطَانُهُ، لِيَغْوِيَ النَّاسَ، وَكَذَلِكَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَالْحَارِثُ الْمُتَنَبِّي الدِّمَشْقِيُّ الَّذِي خَرَجَ فِي دَوْلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَشَاهَدَ النَّاسُ مِنْ كَشْفِ الرُّهْبَانِ عُبَّادِ الصَّلِيبِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ‏.‏

وَالْكَشْفُ الرَّحْمَانِيُّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ‏:‏ هُوَ مِثْلُ كَشْفِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ إِنَّ امْرَأَتَهُ حَامِلٌ بِأُنْثَى، وَكَشْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ‏:‏ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلِ، وَأَضْعَافُ هَذَا مِنْ كَشْفِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ مُرَادَ الْقَوْمِ بِالْكَشْفِ فِي هَذَا الْبَابِ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَأَفْضَلُهُ وَأَجَلُّهُ أَنْ يَكْشِفَ لِلسَّالِكِ عَنْ طَرِيقِ سُلُوكِهِ لِيَسْتَقِيمَ عَلَيْهَا، وَعَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ لِيُصْلِحَهَا، وَعَنْ ذُنُوبِهِ لِيَتُوبَ مِنْهَا‏.‏

فَمَا أَكْرَمَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِكَرَامَةٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْكَشْفِ، وَجَعَلَهُمْ مُنْقَادِينَ لَهُ عَامِلِينَ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الْكَشْفُ إِلَى كَشْفِ تِلْكَ الْحُجُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، سَارَتِ الْقُلُوبُ إِلَى رَبِّهَا سَيْرَ الْغَيْثِ إِذَا اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ‏.‏

فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ مُكَاشَفَةُ عَيْنٍ، مَعْنَاهَا لَا مُكَاشَفَةُ عِلْمٍ ‏"‏ أَيْ‏:‏ مُتَعَلِّقُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ عَيْنُ الْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ مُكَاشَفَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ مُتَعَلِّقَهَا الصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ الْمُطَابِقَةُ لِلْحَقِيقَةِ الْخَارِجِيَّةِ، فَكَشْفُ الْعِلْمِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِمَعْلُومِهِ، وَكَشْفُ الْعِيَانِ‏:‏ أَنْ يَصِيرَ الْمَعْلُومُ مُشَاهَدًا لِلْقَلْبِ، كَمَا تُشَاهِدُ الْعَيْنُ الْمَرْئِيَّ‏.‏

وَمَنْ ظَنَّ مِنَ الْقَوْمِ أَنَّ كَشْفَ الْعَيْنِ ظُهُورُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ لِرُسُلِ اللَّهِ لِعِيَانِهِ حَقِيقَةً فَقَدْ غَلَطَ أَقْبَحَ الْغَلَطِ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا مَلْبُوسًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الدُّنْيَا لِبَشَرٍ قَطُّ، وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ‏:‏ هَلْ حَصَلَ هَذَا لِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ‏؟‏ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَحَكَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ إِجْمَاعًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنِ ادَّعَى كَشْفَ الْعِيَانِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ حُكْمُهُ فَقَدْ وَهِمَ وَأَخْطَأَ، وَإِنْ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ كَشْفُ الْعِيَانِ الْقَلْبِيِّ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ لِلْعَبْدِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ قُوَّةُ يَقِينٍ، وَمَزِيدُ عِلْمٍ فَقَطْ‏.‏

نَعَمْ؛ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ نُورٌ عَظِيمٌ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ نُورُ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهَا قَدْ تَجَلَّتْ لَهُ، وَذَلِكَ غَلَطٌ أَيْضًا، فَإِنَّ نُورَ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَمَّا ظَهَرَ لِلْجَبَلِ مِنْهُ أَدْنَى شَيْءٍ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى بِهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ‏.‏

وَهَذَا النُّورُ الَّذِي يَظْهَرُ لِلصَّادِقِ‏:‏ هُوَ نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ‏:‏ مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهَذَا نُورٌ يُضَافُ إِلَى الرَّبِّ، وَيُقَالُ‏:‏ هُوَ نُورُ اللَّهِ، كَمَا أَضَافَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ‏:‏ نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ خَلْقًا وَتَكْوِينًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏ فَهَذَا النُّورُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ، وَأَشْرَقَ فِيهِ فَاضَ عَلَى الْجَوَارِحِ، فَيُرَى أَثَرُهُ فِي الْوَجْهِ وَالْعَيْنِ، وَيَظْهَرُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ يَقْوَى حَتَّى يُشَاهِدَهُ صَاحِبُهُ عِيَانًا، وَذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ أَحْكَامِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَغَيْبَةِ أَحْكَامِ النَّفْسِ‏.‏

وَالْعَيْنُ شَدِيدَةُ الِارْتِبَاطِ بِالْقَلْبِ تُظْهِرُ مَا فِيهِ، فَتَقْوَى مَادَّةُ النُّورِ فِي الْقَلْبِ وَيَغِيبُ صَاحِبُهُ بِمَا فِي قَلْبِهِ عَنْ أَحْكَامِ حِسِّهِ، بَلْ وَعَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ، فَيَنْتَقِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ إِلَى أَحْكَامِ الْعِيَانِ‏.‏

وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ‏:‏ أَنَّ أَحْكَامَ الطَّبِيعَةِ وَالنَّفْسِ شَيْءٌ، وَأَحْكَامَ الْقَلْبِ شَيْءٌ، وَأَحْكَامَ الرُّوحِ شَيْءٌ، وَأَنْوَارَ الْعِبَادَاتِ شَيْءٌ، وَأَنْوَارَ اسْتِيلَاءِ مَعَانِي الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ عَلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ، وَأَنْوَارَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ شَيْءٌ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏

فَهَذَا الْبَابُ يَغْلَطُ فِيهِ رَجُلَانِ؛ أَحَدُهُمَا‏:‏ غَلِيظُ الْحِجَابِ، كَثِيفُ الطَّبْعِ، وَالْآخَرُ‏:‏ قَلِيلُ الْعِلْمِ، يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الْخَارِجِ، وَنُورُ الْمُعَامَلَاتِ بِنُورِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَا مُكَاشَفَةُ الْحَالِ ‏"‏ مُكَاشَفَةُ الْحَالِ‏:‏ هِيَ الْمَوَاجِيدُ الَّتِي يَجِدُهَا السَّالِكُ بِوَارِدَاتِهِ، حَتَّى يَبْقَى الْحُكْمُ لِقَلْبِهِ وَحَالِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهِيَ مُكَاشَفَةٌ لَا تَذَرُ سِمَةً تُشِيرُ إِلَى الِالْتِذَاذِ ‏"‏ يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةَ تَمْحُو رُسُومَ الْمُكَاشِفِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ مَا يُحِسُّ بِلَذَّةٍ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ وَالْمَوَاجِيدَ لَهَا لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ، أَضْعَافُ اللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ لَذَّتَهَا رُوحَانِيَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَالْمُكَاشَفَةُ الْعَيْنِيَّةُ تُغَيِّبُ الْمُكَاشِفَ عَنْ إِدْرَاكِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، وَالسِّمَةُ هِيَ الْعَلَامَةُ، فَالْمَعْنَى‏:‏ أَنَّ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةَ لَا تَذَرُ لَهُ عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى لَذَّةٍ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ أَوْ تُلْجِئُ إِلَى تَوَقُّفٍ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ لَا تَذَرُ لَهُ بَقِيَّةً تُلْجِئُهُ إِلَى وَقْفَةٍ، فَإِنَّ الْبَقِيَّةَ الَّتِي تَبْقَى عَلَى السَّالِكِ مِنْ نَفْسِهِ‏:‏ هِيَ الَّتِي تُلْجِئُهُ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي سَيْرِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَا تَنْزِلُ عَلَى رَسْمٍ ‏"‏ أَيْ‏:‏ لَا تَنْزِلُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ عَلَى مَنْ بَقِيَ فِيهِ رَسْمٌ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ، فَلَا تَنْزِلُ فِي بَيْتٍ عَلَيْهِ سَقْفٌ حَائِلٌ، فَإِنَّ الرَّسْمَ عِنْدَ الْقَوْمِ هُوَ الْحِجَابُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ، وَالرَّسْمُ هُوَ النَّفْسُ وَأَحْكَامُهَا وَصِفَاتُهَا، وَهَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ إِذَا قَوِيَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ صَارَتْ مُشَاهَدَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ وَغَايَةُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ هُوَ مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْمُشَاهَدَةِ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

‏(‏بَابُ الْمُشَاهَدَةِ‏)‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَلَامَهُ ذِكْرَى، لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَة‍َ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ وَاعٍ، فَإِذَا فَقَدَ هَذَا الْقَلْبَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالذِّكْرَى،

الثَّانِي‏:‏ أَنْ يُصْغِيَ بِسَمْعِهِ كُلِّهِ نَحْوَ الْمُخَاطَبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِكَلَامِهِ،

الثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يُحْضِرَ قَلْبَهُ وَذِهْنَهُ عِنْدَ الْمُكَلِّمِ لَهُ، وَهُوَ الشَّهِيدُ؛ أَيِ‏:‏ الْحَاضِرُ غَيْرُ الْغَائِبِ، فَإِنْ غَابَ قَلْبُهُ وَسَافَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْخِطَابِ‏.‏

وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُبْصِرَ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْمَرْئِيِّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ مُبْصِرَةٌ، وَحَدَّقَ بِهَا نَحْوَ الْمَرْئِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ فَقَدَ الْقُوَّةَ الْمُبْصِرَةَ، أَوْ لَمْ يُحَدِّقْ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ، أَوْ حَدَّقَ نَحْوَهُ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ كُلَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يُدْرِكْهُ، فَكَثِيرًا مَا يَمُرُّ بِكَ إِنْسَانٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَلْبُكَ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ، فَلَا تَشْعُرُ بِمُرُورِهِ، فَهَذَا الشَّأْنُ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الْقَلْبِ وَحُضُورَهُ، وَكَمَالَ الْإِصْغَاءِ‏.‏

‏[‏حَقِيقَةُ الْمُشَاهَدَةِ‏]‏

قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ ‏"‏ الْمُشَاهَدَةُ مَعْنَاهَا‏:‏ سُقُوطُ الْحِجَابِ بَتًّا ‏"‏ أَيْ‏:‏ قَطْعًا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُشَاهَدَةُ هِيَ الْمُسْقِطَةُ لِلْحِجَابِ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ سُقُوطِ الْحِجَابِ، وَلَيْسَتْ هِيَ نَفْسُ سُقُوطِ الْحِجَابِ، لَكِنْ عَبَّرَ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ، فَإِنَّ سُقُوطَ الْحِجَابِ يُلَازِمُ حُصُولَ الْمُشَاهَدَةِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَهِيَ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ ‏"‏ هَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ- وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ- بِالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ قُوَّةُ الْيَقِينِ، وَمَزِيدُ الْعِلْمِ، وَارْتِفَاعُ الْحُجُبِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ، لَا نَفْسُ مُعَايَنَةِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمُكَاشَفَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ مُعَايَنَةُ الْحَقِيقَةِ، لَمَا كَانَ فَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَاهَدَةُ عِنْدَهُ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاشَفَةَ وِلَايَةُ النَّعْتِ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ بَقَايَا الرَّسْمِ، وَالْمُشَاهَدَةَ وِلَايَةُ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ تَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَوِلَايَتُهَا وِلَايَةُ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ؛ أَيْ‏:‏ سُلْطَانِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، هُوَ النُّعُوتُ وَالصِّفَاتُ وَسُلْطَانُ الْمُشَاهَدَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِلنُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ فَوْقَهَا، وَأَكْمَلَ مِنْهَا‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ وِلَايَةِ النَّعْتِ وَوِلَايَةِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ أَنَّ النَّعْتَ صِفَةٌ، وَمَنْ شَاهَدَ الصِّفَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشَاهِدَ مُتَعَلِّقَاتِهَا، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا يُكْسِبُهُ التَّعْظِيمَ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا، فَإِنَّ مَنْ شَاهَدَ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُتَعَلِّقًا بِسَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى- مِنْ وَاجِبٍ، وَمُمْكِنٍ، وَمُسْتَحِيلٍ- وَمَنْ شَاهَدَ الْإِرَادَةَ الْمُوجِبَةَ لِسَائِرِ الْإِرَادَاتِ عَلَى تَنَوُّعِهَا- مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَعْيَانِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى- وَشَاهَدَ الْقُدْرَةَ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، وَشَاهَدَ صِفَةَ الْكَلَامِ، الَّذِي لَوْ أَنَّ الْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَأَشْجَارُ الْعَالَمِ كُلُّهَا أَقْلَامٌ يُكْتَبُ بِهَا كَلَامُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، لَفَنِيَتِ الْبِحَارُ، وَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ، وَكَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْفَدُ وَلَا يَفْنَى‏.‏

فَمَنْ شَاهَدَ الصِّفَاتَ كَذَلِكَ، وَجَالَ قَلْبُهُ فِي عَظَمَتِهَا فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالصِّفَاتِ، وَمُتَفَرِّقُ قَلْبُهُ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا فِي أَنْفُسِهَا، بِخِلَافِ مَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ، وَشَاهَدَ قِدَمَهَا وَبَقَاءَهَا، وَاسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي عَظَمَةِ تِلْكَ الذَّاتِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِفَاتِهَا، فَهُوَ مُشَاهِدٌ لِلْعَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مُشَاهِدٌ لِلصِّفَاتِ، فَالْأَوَّلُ فِي فَرْقٍ، وَهَذَا فِي جَمْعٍ، فَمَنِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُشَاهِدِ، وَوَصْفُ الْمُشَاهَدَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ إِذَا غَابَ عَنْ إِدْرَاكِ رَسْمِهِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَالٍ، هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ‏.‏

وَبَعْدُ، فَإِنَّ وِلَايَةَ‏!‏ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا دُونَ وِلَايَةِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهَا كَمَا زَعَمَ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ فِي كُتُبِهِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَبِذَلِكَ نَطَقَتْ كُتُبُهُ وَرُسُلُهُ، فَهَذَا الْقُرْآنُ- مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ- إِنَّمَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى النَّظَرِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ، دُونَ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ، فَإِنَّ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةِ لَا يُلْحَظُ مَعَهَا وَصْفٌ، وَلَا يُشْهَدُ فِيهَا نَعْتٌ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالٍ وَلَا جَلَالٍ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ شُهُودِهَا إِيمَانٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ‏.‏

وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ‏!‏ أَيْنَ يَقَعُ شُهُودُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَتَنَوُّعِهَا وَكَثْرَتِهَا، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عَظَمَةِ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي كَمَالِهِ؛ لِكَثْرَةِ أَوْصَافِهِ وَنُعُوتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَامْتِنَاعِ أَضْدَادِهَا عَلَيْهِ، وَثُبُوتِهَا لَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا- مِنْ شُهُودِ ذَاتٍ قَدْ غَابَ مُشَاهِدُهَا عَنْ كُلِّ صِفَةٍ وَنَعْتٍ وَاسْمٍ‏؟‏‏!‏

فَبَيْنَ هَذَيْنِ الْمَشْهَدَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ مَشْهَدُ مَنْ تَأَلَّهَ وَفَنِيَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا‏:‏ إِنَّ كَمَالَ هَذَا الْمَشْهَدِ هُوَ قَصْرُ النَّظَرِ الْقَلْبِيِّ عَلَى عَيْنِ الذَّاتِ، وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الْأَعْرَاضِ وَالْأَبْعَاضِ وَالْأَغْرَاضِ وَالْحُدُودِ وَالْجِهَاتِ‏.‏

وَمُرَادُهُمْ بِالْأَعْرَاضِ‏:‏ الصِّفَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِالْحَيِّ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَالْكَلَامِ، فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ، وَلَا إِرَادَةَ، وَلَا حَيَاةَ وَلَا عِلْمَ، وَلَا قُدْرَةَ‏.‏

وَمُرَادُهُمْ بِالْأَبْعَاضِ‏:‏ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا يَدَانِ، وَلَمْ يَخْلُقْ آدَمَ بِيَدِهِ، وَلَا يَطْوِي سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ، وَلَا يَقْبِضُ الْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وَلَا يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَلَا الْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَلَا الشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُهُ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَمُرَادُهُمْ بِالْأَغْرَاضِ‏:‏ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ، وَلَا لِعِلَّةٍ غَائِيَّةٍ، وَلَا سَبَبَ لِفِعْلِهِ، وَلَا غَايَةَ مَقْصُودَةٌ‏.‏

وَمُرَادُهُمْ بِالْحُدُودِ وَالْجِهَاتِ‏:‏ مَسْأَلَةُ الْمُبَايَنَةِ وَالْعُلُوِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ خَلْقِهِ، وَلَا مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي، وَلَا تَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَهٌ يُعْبَدُ، وَلَا رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ، بَلْ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ‏!‏

فَكَمَالُ الشُّهُودِ عِنْدَهُمْ‏:‏ أَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ كُلِّ اسْمٍ وَوَصْفٍ وَنَعْتٍ‏.‏

وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ عَدُوُّ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ بَرَاءَةَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِثْلَ هَذِهِ الْبَقِيَّةِ، وَهِيَ جَعْلُ مَشْهَدِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ فَوْقَ مَشْهَدِ الصِّفَاتِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقَعُ الشُّهُودُ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَلَا جَعْلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا إِلَيْهَا شُهُودُ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الذَّاتِ وَالْعَيْنِ‏:‏ فَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِيَّةِ، وَلَمَّا سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ‏:‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ‏؟‏ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ وَلِذَلِكَ لَمَّا سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أَجَابَهُ مُوسَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ إِذْ لَا وُصُولَ لِلْبَشَرِ إِلَى حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ مِنْ كَوْنِهِ صَمَدًا، وَصِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلثُّبُوتِ؛ مِنْ كَوْنِهِ ‏"‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‏"‏ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ سَبِيلًا إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالْكُنْهِ‏.‏

فَمَا هَذَا الشُّهُودُ الْعَيْنِيُّ الذَّاتِيُّ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ لِلْمُشَاهِدِ، وَجَعَلْتُمُوهُ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ، وَجَعَلْتُمْ وِلَايَةَ الْمُكَاشَفَةِ النَّعْتَ وَوِلَايَةَ الْمُشَاهَدَةِ الْعَيْنَ‏؟‏

فَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ- وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْعَارِفِينَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ-‏:‏ أَنْ لَا يَقْصِرَ نَظَرَ الْقَلْبِ عَلَى صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ فِيهَا وَحْدَهَا، بَلْ يَكُونُ الْتِفَاتُهُ وَشُهُودُهُ وَاقِعًا عَلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَنْعُوتَةِ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شُهُودُهُ وَاقِعًا عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا‏.‏

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا فَوْقَ مَشْهَدِ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِالصِّفَاتِ‏.‏

وَلَكِنْ يُقَالُ‏:‏ الشُّهُودُ لَا يَقَعُ عَلَى الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَا يَصِحُّ تَجَرُّدُهَا فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الذِّهْنِ، بَلْ مَتَى شَهِدَ الصِّفَةَ شَهِدَ قِيَامَهَا بِالْمَوْصُوفِ وَلَا بُدَّ، فَمَا هَذَا الشُّهُودُ الذَّاتِيُّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الشُّهُودِ الْوَصْفِيِّ‏؟‏

وَالْأَمْرُ يَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِصِفَاتِ اللَّهِ أَعْرَفَ وَلَهَا أَثْبَتَ، وَمَعَارِضُ الْإِثْبَاتِ مُنْتَفٍ عِنْدَهُ- كَانَ أَكْمَلَ شُهُودًا، وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ شُهُودًا هُوَ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ‏:‏ اسْتَدَلَّ بِمَا عَرَفَهُ مِنْهَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ مَا أَحْصَاهُ وَعَلِمَهُ‏.‏

فَمَشْهَدُ الصِّفَاتِ‏:‏ مَشْهَدُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِهَا أَعْرَفَ كَانَ بِاللَّهِ أَعْلَمَ، وَكَانَ مَشْهَدُهُ بِحَسَبِ مَا عَرَفَ مِنْهَا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَقِيقَةِ مُشَاهَدَةٌ وَلَا مُكَاشَفَةٌ، لَا لِلذَّاتِ وَلَا لِلصِّفَاتِ، أَعْنِي مُشَاهَدَةَ عِيَانٍ وَكَشْفَ عِيَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيدُ إِيمَانٍ وَإِيقَانٍ‏.‏

وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ هَاهُنَا عَلَى أَمْرٍ، وَهُوَ‏:‏ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ نَتَائِجُ الْعَقَائِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَ مُعْتَقَدُهُ ثَابِتًا فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ إِذَا صَفَتْ نَفْسُهُ وَارْتَاضَتْ، وَفَارَقَتِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّذَائِلَ، وَصَارَتْ رُوحَانِيَّةً تَجَلَّتْ لَهَا صُورَةُ مُعْتَقَدِهَا كَمَا اعْتَقَدَتْهُ، وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ التَّجَلِّي حَتَّى يَصِيرَ كَالْعِيَانِ، وَلَيْسَ بِهِ، فَيَقَعُ الْغَلَطُ مِنْ وَجْهَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ ظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الذِّهْنِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَفَا الِارْتِيَاضُ وَانْجَلَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ الطَّبْعِ، وَغَابَ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقَلْبِ، بَلْ أَحْكَامُ الرُّوحِ- ظَنَّ أَنَّهُ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَوْ جَاءَتْهُ كُلُّ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَايَنَ الْهِلَالَ بِبَصَرِهِ جَهْرَةً، فَلَوْ قَالَ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏:‏ لَمْ تَرَهُ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ‏.‏

وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّا لَا نُكَذِّبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا نُوقِنُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى صُورَةَ مُعْتَقَدِهِ فِي ذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، لَا الْحَقِيقَةَ فِي الْخَارِجِ، فَهَذَا أَحَدُ الْغَلَطَيْنِ‏.‏

وَسَبَبُهُ‏:‏ قُوَّةُ ارْتِبَاطِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ بِالْقَلْبِ، فَالْعَيْنُ مِرْآةُ الْقَلْبِ شَدِيدَةُ الِاتِّصَالِ بِهِ، وَتَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ قُوَّةُ الِاعْتِقَادِ، وَضَعْفُ التَّمْيِيزِ، وَغَلَبَةُ حُكْمِ الْهَوَى وَالْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَسَمَاعُهُ مِنَ الْقَوْمِ‏:‏ أَنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ‏.‏

وَالْغَلَطُ الثَّانِي‏:‏ ظَنُّ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا اعْتَقَدَهُ، وَأَنَّ مَا فِي الْخَارِجِ مُطَابِقٌ لِاعْتِقَادِهِ،

فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَيْنِ الْغَلَطَيْنِ مِثْلُ هَذَا الْكَشْفِ وَالشُّهُودِ‏.‏

وَلَقَدْ أَخْبَرَ صَادِقُ الْمَلَاحِدَةِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ‏:‏ أَنَّهُمْ كُشِفَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوهُ، وَشَهِدُوهُ فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ عِيَانًا، وَهَذَا الْكَشْفُ وَالشُّهُودُ‏:‏ ثَمَرَةُ اعْتِقَادِهِمْ وَنَتِيجَتُهُ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مَا إِلَى الْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏